السبت 2016/02/06

آخر تحديث: 06:45 (بيروت)

ريتشارد الطائي ونيكوله الأخيلية

السبت 2016/02/06
increase حجم الخط decrease

مربط الفرس في هذه القصة هو مربط الفرس نفسه، لكن قبل ذلك لا بد من الوقوف على الأطلال ..

مكث غياث سنة وشهرين هو وبناته الثلاث في المخيّم ( الهايم، وفي الإسمين شبه) وهو يعاني من الزحام والضيق،  البنت الرابعة لا تزال في دمشق، تكمل سنتها الجامعية الأخيرة، تأخرت في  اللحاق بهم، فعلقت بين السدين حجزا، وتلك مأساة أخرى. صَبِر وصَابَر ورابط وطفق يبحث مع أصدقاء يعرفون الألمانية عن دار للسكن في الانترنت ، وكلما وجد داراً  وذهب لمقابلة صاحبها عاد بخفي حُنين، وبوطي بشار الأسد.

شروط الاستئجار معقدة، وهي موزعة بين الأجر والتدفئة والماء والضمان والمساحة ... وأحياناً أجرة المكتب العقاري الوسيط كبيرة لا يدفعها الضمان الاجتماعي.. والأهم هو أن الألماني يتجنب تأجير بيته لوافد لاجئ، لا يعمل، ولا يجيد الألمانية، إلى أن يئس تماماً.

فكر في البحث في  مقاطعة أخرى له فيها معارف، وهو حل ليس سهلاً، ولم يكن  الزحف البني السوري من تركيا إلى ألمانيا المحتلة قد وقع،  فأعداد اللاجئين كانت لا تجاوز المائة الألف أو يزيدون،  فانتظر السَحَر، وتوضأ وصلى ركعتين،  ورفع يديه إلى السماء، أشعث، أغبر. فجاء الخبر من فوق سبعة أرقعة، في اليوم التالي كانت موظفة شؤون اللاجئين التركية السيدة أمينة عنده، تبشره ببيت وتدعوه لرؤيته!

لم تكن شقة، بل داراً فارهة ، هاوس باللغة الألمانية والإنكليزية ...، وهاوس كلمة عربية أصلها حوش،  أجمل من شقة  العمة ميركل رئيسة الوزراء،  فهو هاوس فوق ناد  للقوارب، وللنادي حديقة كبيرة ، وصالة ألعاب وتنّور لصنع البيتزا، وصالة لإقامة الحفلات. الألمان يعيشون بالحفلات، ومن أجلها، فأكثر كلمة سائرة في اللغة الألمانية هي "الاور لاوب" والحفلة  "الفيست" و"فايرن" يعني بالعربية "شعللة"، من الفوران. وفيها أشجار كستناء وجوز وتين ومزارع وحواكير لزراعة الخضار، وبيوت للطيور وأرانب وسناجب..

يهوى الألمان صنع بيوت الطير،وهي بيوت خشبية يعلقونها بالأشجار ..ألا ليت الفتى حجر أو طير .. كان حوالي عشرين عضواً أعضاء النادي  بانتظار العائلة السورية المكرمة بالبيت ، وقفوا صفاً واحداً  في عرض غير عسكري، وقد علقوا  زينة من البالونات والأوراق الملونة بانتظاره مكتوب عليها: نادي القوارب يرحب بعائلة السيد العزيز غياث.

وقتها بكى غياث قلبه،  وهو يتذكر دعاء سليمان عليه السلام:  رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين.

فوقع ما كان يحلم به،  عند بلوغه  ألمانيا بعد رحلة أوديسية، كان يظن أنه بطل، وأن ميركل أو مندوباً عنها سينتظره  في المحطة، وتطلق له إحدى وعشرين طلقة أو بلا طلقات،  فقد سجن شهرين، ولاقى الأهوال،  وملأت الشبيحة جسده بالأوشام والأسقام، و"التاتوات" حرقاً  وكيّاً وسلخاً.. وأوشام أخرى لا تزول إلا بالموت، وكان يظنّ أن لا شيء  يغسل آلامه سوى البحر الأبيض المتوسط..

في يوم الموعدة، جاءت سيارتان مفروزتان لنقله مع حقائبه إلى الدار، كان حوالي عشرين من أعضاء النادي  ينتظرونه تحيةً، في نصف ساعة كانت الدار قد رتبت، وأهديت له ذخائر وأثاث كثير، وبانتظاره خمس نسخ من مفاتيح البيت،  مزينات بخمس ميداليات مختلفة تناسب أعمار وأهواء أفراد الأسرة السورية النازفة.

البيت له إطلالتان اندلستان، واحدة رائعة لا تقدر بثمن ؛واحدة على نهر الماين، والأخرى على سكة الشمس، وهي تأوي إلى عشها في المغيب. إضافة إلى ذلك الكثير من المتاع: الماء مجاني، صالة تدريب رياضية، تجديف وإبحار مجاني، طاولة تنس .. الماء  غال في ألمانيا، فبئر النادي مستقلة، وهكذا تستطيع العائلة أن تستمر على منوالها السوري سرفاً للماء.

قالت له السيدة نيكوله، زوجة ريتشارد: نتمنى أن يكون البيت أعجبكم!

فيقول غياث بالانكليزية: الحقيقة إنه يشبه بيت جدي الملك تُبّع اليماني : مرحباً وأهلاً وناقة ورحلاً ومناخاً سهلاً وشعبا ربحلاً يعطي عطاء جزلاً.

كان ريتشارد، الذي يعمل كبير مهندسين في شركة عملاقة عابرة للقارات، قد اجتمع مع إدارة النادي، وقرروا تأجيره لعائلة سورية تعاطفاً مع سورية وشعبها النازف، ألمانيا لها ذكريات مشابهة في الحرب والنزوح، فذهبوا إلى دار الرعابة الاجتماعية " السويشال"،  وأعلمهم  بالبيت وخفضوا كلفة الأجرة لتناسب ما يدفعه الضمان الاجتماعي، أما في الحقيقة فالأجرة  غالية جداً. لا يقدر عليها إلا أولي العصبة والقوة والمال.

اصطحب ريشارد غياث  إلى عزبته، الواقعة على ضفة الماين أيضاً، وفيها وز كثير، وخنازير، وشقة جميلة، وتنور أيضاً وأمتعة وذخائر كثيرة وآلات زراعية وحصادات صغيرة، وعربات بأشكال متنوعة، تدفع باليد أو تجر بالآلات الزراعية،  وفرس وحصانين، فوقع غياث في غرام  الخيول الثلاثة. وهنا مربط الأفراس الثلاثة.

 بعد ثلاث زيارات اكتشف ريتشارد أن غياث، فارس حقيقي، وأن الخيول أنَسَت به، وسأله عن سرعة  التآلف  الخارقة،  فالفرس القت بأبنته المدربة مرة، وقذفتها  وكسرت ترقوتها، مزاجها مزاج حمار وحش! فقال غياث: أنا بطيء في الألمانية، لكني أعرف لغة الخيول.

  • لغة الخيول!

  • هل سمعت بالنبي سليمان يا ريتشارد؟

قال ريتشارد:.  لا.. دينياً،  أنا معدوم الثقافة، لا اعرف سوى جيساس ( عيسى)، وهي معرفة لا يعتد بها.

  • هذا نبي، واحد من أحب الأنبياء إلى قلبي، كان قوياً جداً، أوتى ملكاً لم يؤته أحد من العالمين، ويجيد لغة الطير  والحيوانات والحشرات،  وتأتمر بأمره الريح وتقول له شبيك لبيك،  ويأمر الجن والعفاريت جنده وخدمه، وكان يحب الخيل وهي في العربية معقود ٌفي نواصيها الخير..

هناك آية في القرآن على لسان سليمان عليه السلام:" فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ . رُدُّوهَا عَلَيَّ  فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ"، لقد حرصت هذه الفترة على أمر واحد، وهو مسح سوق الخيول وأعناقها، السوق قبل الأعناق، الطريق إلى قلوب الخيول هو عراقيبها ... وبقيت شهرا و أنا أحكها وافركها وامسحها ... حتى توارت بالحجاب.

اقترب غياث من النعامة، وهو الاسم الذي أطلقه على الفرس "الفا"، أما الحصانان "بيتا" و"غاما"،  فهما الأدهم، والكميت.  هتف الحارث بن عباد:

قَرِّبا مَربَط النَعامةَ مِنّي ... كُلَّما هَبَّ ريحُ ذَيلِ الشَمالِ

صاح عنترة بن شداد:
فَـازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنا بِلِبانِـهِ
وشَـكَا إِلَىَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ

امتطى غياث النعامة بعد أن لبس عدة الهيجاء، فسأل ريشي إبنة غياث، الثانية ترتيباً: ماذا يقول أبوك؟

قالت:  هذا شعر عربي مبين، الكاوبوي عندما يركب الفرس يطلق النار، الهندي يولول، أما العربي فيقول شعرا ، الشعر ديوان العرب، كتاب الصادر والوارد، المشاعر  والأحلام  ...أبي يحب الشعر الجوز، وأحيانا الشعر العنب والشعر التفاح..  لم يحب شيئاً مثل الشعر سوى الخيل، وهي المرة الأولى التي يركبها، وهو شعر صعب،  المعنى في الشعر  الذي قاله أبي هو الفخر والفروسية والنجدة والحنين...

طلب غياث  من إبنته فتح بوابة سور العزبة..

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ..

همز غياث التبعي النعامة، فانطلقت نحو الغابة، تنجدل ضفيرتها الطويلة مع جديلته التي نذر ألا يحلقها مثل الدرعاوي  أيمن الأسود حتى تتحرر سوريا، وتلاطمت موجاً مع ضفائر الريح .. هذا يوم تحلاق اللمم. اليوم يوم الملحمة..

ثلاث جدائل: جديلة غياث وعرف النعامة وعرف الريح ..

هتف للنعامة المحمحمة، وهي تعانق  الأمداء والآفاق البعيدة:

لبيك يا شااااااااااااااام.








increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب