الإثنين 2014/09/22

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

هاني فحص: ذاكرة فلسطينية

الإثنين 2014/09/22
increase حجم الخط decrease

لم يكن بين لبنان وفلسطين أي حدود البتة حتى سنة 1926؛ فشمال فلسطين وجنوب لبنان امتداد طبيعي واحد، وجبال الجليل هي تواصل جغرافي متتابع لجبل عامل. والحدود التي رُسمت في تلك السنة لم تُرسم بإرادة أبناء هذه البلاد، بل بأقلام الانتدابين الفرنسي والبريطاني. لكن، في سنة 1946، سيولد في جبشيت من أعمال جبل عامل طفل يجسد بخصاله ونضاله الخصومة التاريخية لتلك الحدود. وفي سنة 1980 سيصدر هذا الشاب كتابًا بعنوان "أوراق من دفتر الولد العاملي"، وسيدشن هذا الكتاب ميلاد أديب كبير، بل سيمثل الولادة الثانية للسيد هاني فحص.


*  *  *

هاني فحص قمر عاملي شبَّ ووجهه إلى فلسطين، وقلبه إلى العراق، وعاش في جنوب لبنان بين أوراق التبغ ورائحة الزعتر وأشواك العاقول والعوسج. كان وحيد والديه، فكأنه منذ البدايات منذور للفرادة، فصار سيدًا بكل معنى الكلمة، فهو سيد في الصبر وسيد في الحلم وسيد في الكلام وسيد في الصمت وسيد في الغضب. وهذا الهاشمي المولود في جبل عامل، حاز شهادته من دمشق، ودرس في النجف ليعود إلى بلاده ويندمج في الكفاح الفلسطيني وفي النضال اللبناني معًا، فكان أحد الذين نظموا انتفاضة مزارعي التبغ في 22/12/1973 إلى جانب موسى شعيب وحسن ملك وأبو تمام صفا وحبيب ياغي وصبحي حمادة وغيرهم. وفي هذه الانتفاضة سقط نعيم درويش وحسن حايك، واعتقل مع موسى شعيب وآخرون. وفي سياق هذا النضال، يروي السيد، أن ياسر عرفات وخليل الوزير سعيا لدى السلطات الليبية آنذاك كي تشتري محصول التبغ بعدما تمنعت شركة حصر التبغ والتنباك (الريجي) عن شراء الموسم، فسافر إلى القاهرة في سنة 1976 ليذهب منها إلى طرابلس. وجراء خلافات داخلية ليبية بقي في القاهرة شهرًا ونصف الشهر حائرًا لا يدري ماذا يفعل؛ فهو لا يستطيع أن يعود إلى مزارعي التبغ خالي الوفاض، ولا يستطيع أن يبقى في القاهرة بلا نقود. وفي القاهرة التقى كمال جنبلاط العائد خائبًا بدوره من ليبيا. وظل ينتظر ياسر عرفات حتى حان موعد مؤتمر القمة العربية، فأخبره شاكيًا الضيق وقلة الحيلة. فما كان من ياسر عرفات إلا أن قال له: عليك بالصبر، ولا تشعر بالذل لأن قضية مزارعي التبغ هي عزٌّ لك، وجميع عذاباتك ستصبح مدعاة للافتخار. أنا أعزتني فلسطين، وحررتني من الشعور بالذل، وكم أمضيت على أبواب القادة العرب أيامًا ألتمس موعدًا من أجل فلسطين.


تلك العلاقة الوثقى بياسر عرفات لم تأتِ هكذا عفو الخاطر، بل تطورت بالتدريج حتى صار السيد شخصية محورية لدى قادة حركة فتح، وهؤلاء ثابروا على الاستماع إلى آرائه وكانوا يأخذون باقتراحاته في الشؤون اللبنانية بلا تردد، ويرمون عليه مهمات ما كان أحد غيره قادرًا على أدائها بالطريقة الملائمة. فحين اقترح تنظيم فتح (اللبناني) أن يتحول إلى إطار سياسي يأخذ في الحسبان القضايا اللبنانية كأولوية، ويتميز عن حركة فتح بمسافة مدروسة، ألَّف ياسر عرفات لجنة لدراسة هذا الاقتراح من هاني فحص وصخر حبش وجواد أبو الشعر، وكان للسيد الرأي الراجح في الخلاصات الختامية. ولاحقًا انتزع من ياسر عرفات وأبو إياد الموافقة على حماية أعضاء حركة أمل ومنظمة الصاعقة وحزب البعث واتحاد قوى الشعب العامل في أثناء الصدام في حزيران 1976، وكان يذهب إلى مواقع المقاتلين في جبل الريحان المواجهة لمواقع القوات السورية كي يشدد عليهم بضرورة التعامل مع الجندي السوري كأخ. ولهذه الغاية أصدر مع بعض الفتحويين والكتيبة الطلابية نشرة "الفجر" الأسبوعية للدفاع عن العلاقات الفلسطينية واللبنانية بسورية.


*  *  *

كلفه ياسر عرفات الاتصال بالمعارضة الإيرانية، وتابع من مرصده في بيروت الاتصالات هذه التي كانت تتواصل مع عز الدين القلق في باريس، ومع عبدالله الإفرنجي في برلين، والتي سهّلت تقاطر مئات الشبان الإيرانيين على مخيمات حركة فتح للتدرب على السلاح. وكانت لقاءاته تجري في فندق "فينر هاوس" في بيروت. ومن بين الذين التقاهم لهذا الغرض الشيخ محمد علمي والسيد علي أكبر محتشمي والسيد حميد روحاني وآخرون. وزار الإمام الخميني مرتين: في سنة 1977، ثم في أيلول 1978 حين زاره في "نوفل لو شاتو" بتكليف من حركة فتح، وباقتراح منه شخصيًا، كي يعرض عليه الانتقال إلى لبنان للإقامة الموقتة فيه في ما لو تمنحه فرنسا هذه الإقامة. وبعد يومين من المباحثات مال الإمام قليلًا إلى هذه الفكرة، لكنه قال: عليَّ إجراء استشارات في هذا الأمر. ولما سأله السيد هاني فحص عمن سيستشير أجاب: زوجتي.


قال له ياسر عرفات مرة: أنتَ تعمل برأي أم حسن أكثر مما تعمل برأيي. فأجابه السيد: ناظم حكمت يقول: وطني حيث تكون زوجتي، وأنت زوجتك فلسطين، لذلك لن تستقر إلا معها وفيها.


*  *  *

أخبره ياسر عرفات، قبيل انتصار الثورة الإيرانية، أن "مسعود" الذي يرأس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في إيران هو نفسه أوري لوبراني. وجرى تعقب "مسعود" في أثناء الثورة، لكنه تمكن من الفرار عبر الأهواز. وكان السيد إلى جانب ياسر عرفات في أول زيارة لزعيم عربي إلى طهران بعد انتصار الثورة في سنة 1979، ومعه حضر احتفال تحويل المكتب التجاري الإسرائيلي إلى "سفارة فلسطين"، وتغيير اسم "ميدان كاخ" (القصر) إلى "ميدان فلسطين". وكان إلى جانبه أيضًا في مرقد الإمام الرضا في مدينة مشهد حين ألقى ياسر عرفات خطبة مسجلة احتشد لها تحت الثلج نصف مليون شخص. وكان معه في الأهواز حين رفع العرب الإيرانيون صور جمال عبد الناصر احتفاء بياسر عرفات. وفي تلك الأثناء تداولت القيادة الفلسطينية أمر تعيينه أول سفير لمنظمة التحرير في طهران، فتحفظ عن ذلك. ومن بين أسباب تحفظه أن وزير الخارجية الإيرانية في أول حكومة بعد سقوط الشاه كان كريم سنجابي، ثم خلفه ابراهيم يزدي، والاثنان كانا غير راغبين في التعاون مع رجال الدين، ولا حتى مع جلال الدين الفارسي الذي عاش بين مقاتلي حركة فتح، وكانت له علاقة وثقى بالسيد هاني فحص. وتبين ذلك كله في ما بعد حين حرّفت جريدة "إطلاعات" كلامًا ألقاه السيد في أحد المؤتمرات، واتُّهم، استنادًا إلى ذلك التحريف المقصود، بأنه بعثي عراقي ومؤيد لصدام حسين، الأمر الذي اضطره إلى الإقامة في إحدى قواعد الحرس الثوري في طهران مع قائد الحرس عباس دوزدوزاني. ثم أنه خشي من أن يقع في التباس الموقع، فيصبح فلسطينيًا عند الإيرانيين وإيرانيًا عند الفلسطينيين، فأصرَّ على دور مستقل له، ورفض أن يكون مجرد وسيط أو قناة لتقريب وجهات النظر للطرفين. وانتهت هذه المهمة مع نشوب الحرب العراقية – الإيرانية.


*  *  *

أتى السيد هاني فحص من بساطة في العيش، ومن فكر يساوي الالتزام الثوري بالفقر، ويجعل الزهد من لوازم الالتزام الثوري. والمعروف أن ياسر عرفات حين سافر إلى إيران ومعه السيد هاني أقلته طائرة الرئيس حافظ الأسد، وهي طائرة عادية. وفي طريق العودة أقلته طائرة الشيخ زايد بن سلطان من طهران إلى دبي في شتاء قارس في شباط 1979. وفي الطائرة، وهي قصر طائر، لاحظ عناقيد عنب موجودة في أطباق خاصة، فتعجب من وجود زينة بلاستيكية على طائرة فاخرة جدًا. وفي العشاء الذي أقامه الشيخ زايد، وكان السيد يجلس إلى جانب محمود عباس وأحمد خليفة السويدي لاحظ وجود أطباق كالتي رآها في الطائرة، فمد يده إلى حبة خوخ حمراء وضغط عليها مستكشفًا أمرها معتقدًا أنها بلاستيكية ولا تُستعمل إلا للزينة، فانفجرت حبة الخوخ، وسال عصيرها، ودُهش كيف أن فواكه الصيف موجودة على موائد الطعام في الشتاء. ومن طرائف هذه الرحلة أن ضباط الأمن في أبو ظبي اعتقدوا أنه أحمد الخميني وقد جاء برفقة ياسر عرفات. وفي صباح اليوم التالي نسي موظفو الفندق إيقاظه، وغادر أبو عمار ومرافقوه الفندق على عجل كالعادة إلى المطار. وبينما كانت الطائرة توشك على الإقلاع لاحظ أبو عمار غياب السيد هاني، فطلب الاتصال بالفندق للإسراع في نقل السيد إلى المطار، فنزل السيد من غرفته بلا إفطار. وفي المطار نزل من السيارة بسرعة، ولم يكن معه أي نقود، وصعد إلى الطائرة بينما كان السائق يصرخ مطالبًا بالأجرة.


*  *  *

في سنة 1980 نصحه ياسر عرفات بالسفر إلى طهران والإقامة فيها موقتًا لأن الملاحقة الأمنية العراقية له ازدادت، ومراقبته تكثفت. فأقام في إيران خمسة أشهر. وفي تلك الأثناء نقل إلى الإمام الخميني رغبة ياسر عرفات في مصالحته مع السيد شريعتمداري. وكان يعيد صوغ رسائل أبو عمار إلى القيادة الإيرانية شكلًا ومضمونًا. وحين رجع إلى دياره عاد إلى ديدنه؛ فكان لا يكف عن التجوال في جميع أرجاء الجنوب، وبالتحديد في قواعد المقاتلين، من تلة مسعود إلى تلة شلعبون وبنت جبيل ومارون الراس، فيلتقي رفاقه، خصوصًا مناضلي الكتيبة الطلابية، وكان الجميع في لبنان كله أصدقاءه وأخوته وأبناءه، وكثيرًا ما بكى الشهداء منهم أمثال جورج عسل (أبو خالد) وجواد أبو الشعر وأمين العنداري (أبو وجيه) ومروان الكيالي وعبدالقادر جرادات (سعد) وعلي أبو طوق وعصمت مراد وخليل عكاوي (أبو عربي) وسمير الشيخ ومحمد بحيص (أبو حسن) وباسم سلطان التميمي (حمدي) وأحمد القرى وجمال القرى وطوني النمس ومحمد شبارو ومحمد صالح الحسيني ونقولا عبود. وكان لا يأنس إلا لرفاقه أمثال معين الطاهر وعبد الحسن الأمين (أبو ميسون) ومحمود العالول وحسن صالح ومحجوب عمر وناصر القدوة وحنان الوزير ومحمود الناطور (أبو الطيب) وصخر حبش (أبو نزار) وسعود المولى وأنيس النقاش ومحمد مطر ومحمد علي (أبو يعقوب) ونظير الأوبري وربحي وأدهم وعشرات العشرات من المناضلين المعروفين والمجهولين معًا.


*  *  *

كان شجاعًا، ولا يتردد في نقد ما يراه غلطًا، ولا سيما بعض وجوه السياسات الفلسطينية في لبنان، وهو الأليف والمؤتلف مع ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد وسعد صايل وغيرهم. وعندما منحه الرئيس محمود عباس الجنسية الفلسطينية لم يكن ذلك اعترافًا بنضاله في سبيل فلسطين فحسب، وهو أمر بدهي ومعروف ومشهود، بل تقديرًا له ولتاريخه وعلمه وفضله وسجاياه التي لا تُنسى على الإطلاق.

increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب