الأحد 2013/02/10

آخر تحديث: 02:06 (بيروت)

السيدة مريم

الأحد 2013/02/10
increase حجم الخط decrease
جلست السيدة مريم، أم غسان، في صدر الغرفة تتلقّى العزاء بابنها الشهيد ذي الستة وعشرين ربيعاً. البيت لشقيقها المعارض الذي ترك البلاد تحت تهديد الاعتقال، وقد نزحت إليه منذ اشتدّ القصف على حيّها وانهار العديد من عماراته. كان ابنها الطبيب آخر العنقود ويفصله عن شقيقه عقد وسنتين. والقصة أن العائلة كلها، رغم ابتعاد السنين، أرادت طفلة تكون مهوى حنان أبيها وسَكينة لأخوتها الذكور. لكن احتمالات الحياة لم تأتِ كما اشتهت العائلة. وكان "أيهم".
يدهشك في ما تراه له من صورٍ، أو في ما تحتفظ عنه في مخيلتك من ذكريات، دوامُ ابتسامته. كأن الحزن لم يدلف يوماً إلى روحه، أو كأن هاتفاً قدرياً كان ينبّئه بكم سيترك من أسى في العالم فطالبه بالتعويض مُقدّماً بدوام الابتسام.  
زارني بعيد خروجه من سجنه الأول وآثار التعذيب لا تزال ماثلة على مشيته وفي بطء حركته. وقتها، أحرجتْ ابتسامته غضبي، وأخجلتْ سكينته انفعالي. قال لي رفيقه: ستة وثمانون يوماً وهو كما ترى، كأنه ليس في سجن. فكّرت: هُوَذا أخيراً من يدحض أسطورة (الثعالبي) حين قال: "إن الله لمّا عجن طينة آدم أمطر عليها سحائب الهموم والحزن أربعين سنة ثم أمطر عليها السرور والفرح سنة واحدة فلذلك صار الهمّ أكثر من الفرح والحزن أكثر من السرور" ( )، وغبطته، ليس لصعوبة إنكار الأسطورة وإنما لقدرته على الاحتفاظ بابتسامه، وعلى المكابرة أمام الأحزان. وتشوّقت لأعرف سرّ تلك المكابرة وأكشف مصدرها.
في بيت العزاء جلست السيدة مريم كسنديانة جبلية، تعصف الريح بأوراقها اليانعة وتعجز عن هزّ الأغصان. نساء ورجال، شباب وصبايا يدخلون ويخرجون، تستقبلهم بوجه صافٍ، صامتٍ، صابر يداري روحاً كليمة خشية أن تفيض بحزنها فتُغرق الحاضرين.
أي بلاغة تقدر على نقل حزنِ أمٍ ثكلى بابنها؟ تباً للغة ما أضعفها أمام "دمعة أجمل الأمهات ووردتها".
شباب وشابات ملؤوا المكان، ذهبوا هناك آملين أن يمنح تواجدُهم أمَ رفيقهم الشهيد القوة على تحمل المصاب، فأكرمتهم بعنفوانها ومنحتهم نفحات من عمق إنسانيتها. قالت شابة اختارت العمل الميداني سبيلاً لثورتها: "كنت بحاجة لأن أراك قبل نزوحي إلى الميدان. من كان يريد جرعة معنويات وصلابة وتماسك، فليمسك بيد أمّنا، والدة أيهم". وقالت أختها الناشطة في الإغاثة: "خجلنا من دموعنا. قالت لنا: يجب أن تكملوا ما بدأتم به، ليس من أجله بل من أجلكم". وقالت ثالثة: "ابتسامة أم أيهم اليوم جعلتني أهزم إحباطي، وأحيت فيّ التفاؤل" ( ).
هنا يكمن سرّ الابتسامة الدائمة إذن، إنها ابتسامة موروثة من هذه المرأة التي تعرف أنها تهزّ العالم بيسارها، ليس بالعنف والدعوة إلى القتل والانتقام، بل بفيض الإنسانية وحكمة الألم. ألم الأمهات، كل الأمهات السوريات اللواتي يفقدن أولادهن في مقتلة يتناسل فيها العنف من العنف والجريمة من الجريمة.
تصدر كل يوم إحصاءات جديدة تتزايد فيها أرقام عدّاد الخسائر البشرية، إحصاءات عن عدد الشهداء: شهداء الثورة من جهة، وشهداء الجيش النظامي من جهة أخرى؛ عدد القتلى من النساء ومن الأطفال، عدد المفقودين، عدد المعتقلين، عدد الجرحى... وإذا جمعنا الأعداد في كل هذه الإحصاءات وصلنا إلى محصلة تشير إلى رقم واحد: عدد الأمّهات الكليمات. قد تنتهي الأزمة المسلّحة بانتصار أحد الأطراف المتحاربة، لكن الخاسر في جميع الأحوال هي الأمّ السورية، هي السيدة مريم.

 
increase حجم الخط decrease