الخميس 2014/12/04

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

الوداع الأخير لصباح

الخميس 2014/12/04
increase حجم الخط decrease

كان يمكن التمييز جيداً بين "المواطنين البسطاء" الذين شاركوا في تشييع صباح، وأنا كنت واحدة منهم، وبين النجوم، على اختلاف درجاتهم. الاثنان شكلا كتلتين واضحتي المعالم، من دون أشرطة صفراء رادعة، ولا لجان انضباط، ولا تعليمات دقيقة حول موقع كل واحدة منهما.

كتلة "المواطنين البسطاء" بتنوعها الشديد، المناطقي والطبقي والطائفي، بأزيائها الملونة وحجاب بعض نسائها وغواية بعضها الآخر، والتي التزمت بتوصيات الراحلة، بأن لا حداد عليها، لا أسود، ولا حزن. مئات من أبناء أجيال مختلفة، من العجائز وحتى الصبايا، قليلو العدد قياساً إلى حجم الفنانة، تجاوزوا كل الحواجز العبثية والكتل الاسمنتية مشياً على الأقدام، وبلغوا الكنيسة فرحين، غير مصدقين بأنهم آتون للوداع الأخير.

ومن الجهة الثانية، كتلة النجوم، وقد وصلوا بسياراتهم الفخمة ذات الزجاج الأسود، وترجّلوا منها بعد إزاحة "مواطنين بسطاء" عن دربهم. وكان يمكنك التعرف بسهولة على تلك الكتلة، ومن بعيد؛ إذ كانت تعلوها عصا الكاميرات التلفزيونية وغير التلفزيون، كل واحدة منها منكبة على نجم من النجوم، تعرفه من هندامه. فالنساء النجمات، ومن بعيد أيضا، كان يمكنك أن تتعرف إليهن بفضل شعرهن، الأشقر في غالبية الأحيان، والمصفّف لتوه عند الحلّاق، في جميعها؛ فوق الكعب العالي الرفيع، والبوتوكس والماكياج، والفستان الأسود الانيق الذي لا يمكن ان تخطئه. فيما الرجال بالطقم الأسود والكرافات السوداء، البالغي الأناقة، والوقفة الشامخة، والجلْ على الشعر والنظارات السوداء.

أحد هذه النجوم من الرجال، صادف أن وصل الى الكنيسة من خلف الشارع المفضي الى "المواطنين البسطاء". فبدت على وجهه معالم الدهشة والإستنكار، كأنه غاضب من ذاك السائق الغبي الذي لم ينزله حيث ينتظره مقامه. ولكنه لم يستغرب طويلاً؛ مثله مثل غيره، نظر عالياً، رأى عصا الكاميرات فوق الرؤوس، فركض نحوها، بعدما اكتسى وجهه معالم الرضا والترحّم "الكلاس".

بقينا هكذا وقتا طويلا: ساعة ونصف ربما، تتكون خلالها الكتلتان ويكبر حجمهما. نجوم يعتزون بحزنهم أمام الكاميرات، يقولون الشعر بالراحلة، يذرف بعضهم قليلا من الدموع... تقابلهم كتلة المواطنين البسطاء المتحركين، الفضوليين، الباحثين عن لحن أو أغنية، المتنصّتين إلى ما تصدح به، من بعيد، "الساوند سيستم" من اغانٍ للراحلة، يبحثون عن اية حجة ليفرحوا ببعضهم، بصور الراحلة الاخاذة، بالفرقة التي سوف ترقص الدبكة، بفرقة الموسيقى التابعة للجيش: متى تغني؟ متى ترقص؟ متى تعزف؟ أين؟ كيف؟ حمّى من النبش عن تلك اللحظة التي تليق براحلة طلبت ان نفرح في تشييعها، ان نغني ونرقص.

ثم حصل أخيراً ما كان "المواطن البسيط" بانتظاره: من بعيد، موكب التشييع تتقدّمه سيارة بيضاء محمولة بمكبرات الصوت، ومعها أغاني صباح. وما ان تصل السيارة الى رأس الشارع حتى تتكون كتلة بشرية واحدة نحوها، تريد ان تجرها الى الكنيسة، تستطبئها، لأنها تريد ان تغني وترقص وتزغرد وتصفق. اختفى النجوم، اختفت الكتلة صاحبة الاضواء، وأفسحت المكان لنوع من التواصل الروحي مع الراحلة، كان ذروة التشييع، ومبتغاه. جثمان صباح يطير في السماء والاهازيج تساعد روحنا على ايصال رسالتنا، من اننا احببنا حياتها وشخصها وأغنياتها..من انها شعلة مضيئة في ليل شرقنا الكالح، وانها هي التي سوف تمنحنا الشجاعة والفرح والكرم، عندما سوف نتذكرها، ونتذكر وداعنا الأخير لها. الوجوه كلها كانت تدمع وتضحك، الاجساد إلتصقت في وثبة واحدة، على مسرح شارع في الهواء الطلق. هكذا عفويا، من دون مخرج ونجوم "يبيعون"، اخترع "المواطنون البسطاء" دورهم وأحسنوا في أدائه، فاندفعوا وتوهّجوا. فيما النجوم في الصالون، يمسحون دموع الكاميرات ويستعدون للقداس الرسمي الذي سوف يشاركهم به بعض نجوم السياسة تحت عدسة كل تلفزيونات العرب، في مشهد مصور مكرر، يليق بجنازات أخرى وتشييع آخر.  

في تشييع صباح، اخترع "المواطنون البسطاء" دورهم، ولعبوه، فبرعوا فيه. سجلوا فرحهم الروحي، وهم يرقصون ويغنون ويزغردون، يبكون ويضحكون، وعادوا الى حياتهم بذخيرة من الضوء والحرارة. وهم بذلك تفوقوا على النجوم، ذوي الحزن الممل والمتأنق، الذين لم يربحوا من الضوء إلا شعاعه الخارجي.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها