الإثنين 2014/07/28

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

مصر المتسولة

الإثنين 2014/07/28
increase حجم الخط decrease

التكرار يعلم الشطّار، وفي مقولة أخرى: الحمار. وقيل أيضاً في مقاربة شبيهه: "الزنّ على الودان أمرّ من السحر". وما يريد السيسي تحقيقه يتطلب ما هو أكثر من السحر. يتطلب الكثير من الحمير، وآلة إعلامية قدرتها لا تقف عند التزييف والتعمية والتشويه، بل تتجاوز ذلك كله، إلى القدرة على نشر الإحباط ونزع الأمل وزرع التسول وانعدام الطموح في نفوس الجميع.
هذا هو بلاء المصريين، أو ربما يواجهون في المرآة شبح انكسار ثورتين.

* * *

زمن مبارك، وكلما ارتفعت الحناجر طلباً "للعيش" أو للشكوى من غلاء الأسعار، كان الرد يأتي من أعلى بأن الجائعين ما هم سوى حاقدين، ومعدل التنمية يقترب من خمسة في المئة، وبالتالي فنحن نسير في الطريق الصحيح، وكل ما نحتاجه هو المزيد من الصبر حتى يشعر محدودو الدخل بآثار التنمية الاقتصادية. لكن للصبر حدوداً، أو ربما لم يكن هذا الطريق المناسب وانتهى الأمر بمبارك ورجاله في السجن بعد ثورة 25 يناير.

الآن، يعود رجال مبارك إلى الصورة، مصطحبين "الروشيتة" القديمة ذاتها، مع بعض التعديلات، لتقديمها للسيسي. يجب أن نسعى جميعاً إلى رفع معدل التنمية الذي انخفض إلى ما دون الواحد في المئة. وبدلاً من العدالة الاجتماعية التي طالبت بها ثورتان، يطالبنا السيسي بالتضحية من أجل مصر، ليتفوق بذلك على نظام مبارك، مقدماً مفهوماً جديداً للاقتصاد، تظهر فيه مصر بصفتها امرأة متسولة، ستحلّ كل مشاكلها إذا جمعنا لها المال المناسب.

وبمناسبة ليلة القدر، كرر السيسي مرة أخرى، ليعلّم الشطّار، أسطورة المئة مليار جنيه في صندوق "تحيا مصر"، وأنه يحتاج إلى هذا المبلغ حتي يبنى البلد. الشخص نفسه كان مديراً للمخابرات الحربية بعد 25 يناير، وكان شاهداً على خروج مئات الملايين والمليارات تحت سمع وبصر المجلس العسكري الذي كان عضواً فيه. هذا المرة يعود ليطلب من المصريين، ليس إرجاع هذه الأموال إلى مكانها أو عودة استثماراتهم إلى بلدهم، بل بأن يمنحوا المال له هو، بصفته دكر مصر.

يقدم السيسي مفهوماً جديداً للاقتصاد يمزج بين اقتصاد إدارة محلات البقالة، وإدارة المؤسسات الخيرية. لا يعترف بقدرة الاقتصاد الخاص على إحداث أي قدرة في مجال التنمية، وفي الوقت ذاته لا يعول كثيراً على قدرة الحكومة أو التشريع من خلال تغيير قوانين الضرائب والدخل لسد العجز في الموازنة. بل يستبدل كل السياسات الاقتصادية المعروفة بسياسية جديدة، وهى التسول من الداخل والخارج، ولهذا لم يكن السيسي ليفوت مناسبة دينية يندفع فيها الناس لفعل الخير، مثل ليلة القدر، ليقدم فقرة جديدة من فقرات التسول.

يقتطع رجال الأعمال والقطاع الخاص من استثماراتهم ليضعوا المليارات في صندوق السيسي، لا تأييداً لسياسية السيسي بل اجتناباً لشره. فهم يرون كيف تقوم الحكومة بتأميم الشركات والاستثمارات بدعوى أنها أموال "الإخوان". وإذا كان التبرع للسيسي مكلفاً، فكلفته بالتأكيد أكثر من كلفة تأميم أموالهم وغضبة السيسي. حتى بعض أجهزة الدولة والحكومة تقتطع من مرتبات موظفيها والعاملين لتتبرع في صندوق "تحيا مصر". وهو الصندوق الذي يمتلك مفتاحه شخص واحد هو الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولا تملك أي جهة سلطة رقابية على هذا الصندوق.
ماذا ستفعل إذن بهذا الصندوق يا عبد الفتاح؟

في خطابه بمناسبة ثورة يوليو، يحدد السيسي اتجاهات ثلاثة ستتحرك فيها سياساته الاقتصادية. الأولى، هي الطرق والمواصلات، إذ يأمل، خلال العام الأول، أن تعاد تهيئة وتوسعة وإضافة 10% من طرق شبكة الطرق المصرية. الثاني، خفض عجز الموازنة إلى أقصى درجة، وذلك من خلال إلغاء كل أشكال الدعم. الجهاز الحكومي الذي يحلم به السيسي هو دولة عملاقة بجهاز إداري مركزي، خيوطه ومفاتيحه في يد واحدة، يمارس التسلط الاقتصادي والأمني من دون أي يتحمل أى نوع من التكاليف أو الدعم لمواطنيه، بل يدعم فقط المستثمرين ورؤوس الأموال ويمهد الطرق لهم. أما الشباب والمصريون، فكما قال السيسي في الخطاب ذاته، يجب أن نؤهلهم بشكل لائق حتى يمكنهم العمل في السوق العربية والدول العربية الأخرى.

أما الاتجاه الثالث الذي تتحرك فيه خطة السيسي الاقتصادية، فقد قرر ألا يخبرنا به، بل سيترك الأمر مفاجأة. فالحبّوب يعتبرنا عشاقاً نلهو في الجنينة، سيختبئ خلف الشجرة ويظهر بخاتم الخطوبة فجأة. كل الأخطاء القديمة يتم تكرارها، كأن الشطّار لا يتعلمون من التكرار. فلا شفافية ولا دراسة جدوى لمشاريعه المفاجئة يمكن اخضاعها للحوار المجتمعي. وكل ما يراهن عليه السيسي هو تأييد شعبي مضاعف إعلامياً، حظي به وقت الانتخابات، ويتبخر تحت نار الأسعار التي ترتفع. خصوصاً وأن آلة إعلام السيسي مستمرة في بث رسائل الإحباط والتحقير، وهذا الضغط المستمر المتتالي بلا أي ثغرة للتنفيس، سيقود إلى لحظة انفجار ما.

increase حجم الخط decrease