الثلاثاء 2014/09/30

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

آلهة النزوح الكردي

الثلاثاء 2014/09/30
آلهة النزوح الكردي
مهد طفل سوري ظلّ عند الحدود السورية التركية (رويترز)
increase حجم الخط decrease

كان السرير المعدني المعلق بسقف الغرفة الوحيدة لجميع أطفالي، وكانت حركته عداداً للوقت الذي كان يمضي ليأتي الاخر. كان الطريق على الأرض التي قسمت إلى ارضين بأسلاك شائكة، ممتداً كأنه مسبحة من الألم لتغريبة لا موعد لانتهائها. مسبحة من الوجوه التي لا تشبه إلا الخوف والموت والهروب نحو اللا شيء. نحو عدم لا تراه السماء ولا تكترث له الملائكة.

كنا نبتعد ببطء عن الدخان والنار الذي امتد ليصل الملائكة هناك. أشارت الحجة ام إبراهيم  بيدها صوب السماء. بدت كتمثال لآلهة قديمة، وهي تقول كنا، ومنذ عشر سنوات، في طريقنا من القرية الواقعة على ضفة الفرات الذي حرمنا منه حافظ الأسد، باتجاه مدينة حلب، كنت أنا وزوجي الذي مضى ذات يوم ولم يعد وخمسة أطفال. كنا نتبادل الصور للمستقبل من دون كلمات وكانت عيناي معلقة بطفلي الأصغر. لم أعرف حينها ما سيأتي. بدأت معهم رحلة التعب والخوف. هرب أبوهم ولم يبقَ من ذكره إلا عبارات قليلة انتهت مع مرور عامين. لقد حرستهم كذئبة وأطعمتهم كعصافير.

مرت سنوات وسنوات. كنت أراهم يكبرون ويكبر معهم بيتي وقلبي وتزيد تجاعيدي. وكما الحلم، كنا نتحول الى الأفضل. "نريد ان نعيش فقط"، تردد وهي تحضن حفيدها. كبر الطفل الأصغر وصار بعمر الورد حين قامت الثورة وبدأ النظام بسحب الشبان إلى التجنيد. لم أكن أريد لأولادي أن يدخلوا هذه اللعنة. جمعت ما استطعت لرحلتنا صوب القرية البعيدة. هناك لا نظام ولا جيش ولا حرب. هناك سنعيد بناء الغرفة الوحيدة التي ستجمعنا.

عدنا عبر الطريق نفسه الذي مررنا به قبل عشر سنوات. كان الطريق يومها محملاً بالناس الهاربين من معارك ودمار مدينة حلب. سياراتهم حُمّلت بكل الأشياء على عجل وبجنون لا يخفى على ناظر. وكانت عيناي معلقة بمحي الدين الصغير الذي طُلب للخدمة العسكرية منذ فترة وكان دافعاً لمغادرة المدينة. الحافلات مسرعة تسابق الشمس، خوفاً من الطيران. الهواء حارق، وله رائحة موت يلاحقنا. عيون الأطفال، على غير عادتها في الحافلات المكشوفة، منكسرة. ربما كانوا يدركون أنها ليست رحلة العائلة المعتادة ليوم واحد، ربما أدركوا أن لعبة الحرب هذه المرة ستطول.

وصلنا وبدأنا بإعداد بيتنا الذي سيكفيني خسارة احدهم. كانت كوباني هذه المدينة الممدودة على أرض قاتمة.

من كثرة الخسارات في الجبال، لم نعد من سكان تلك الجبال ولم نعرفها نحن، لكنها بقيت في ذاكرة الكردي المتمسك بالحلم قبل أن تخطفه منه مجموعة من الأحزاب والغربان. مع مرور الأيام، أدركت غياب أو بُعد الطريق من المدينة التي كانت المخلّص لي ولأولادي ذات يوم. حينها بدأت الحرب تشتد وبدأت الانقسامات تبدو جلية وواضحة. فقوات الحماية الكردية التي أكلت جبالها الآلاف من الشباب الكورد، عادت لتفرض سيطرتها على المناطق الكردية. وما هي إلا فترة قصيرة حتى بدأت تلك القوات بفرض التجنيد الإجباري على الشبان الذين لم يلتحقوا بخدمة النظام. حينها صرختُ بكل ما أوتيت من حب: اذهبوا. 

دفعت بأبنائي الخمسة هذه المرة إلى مصير أبيهم. هروب بالوراثة ربما، وكانت وجهة محي الدين، طفلي الأصغر، إلى كردستان العراق بلاد الحلم للكردي. الحلم المغلق في وجه الكورد خاصة. في غيابهم كنت أعد الفطور لأبنائهم وكأنهم هم. أشعر وكأنني حوّلتهم إلى أطفال مرة أخرى كي لا تخطفهم الحرب ولا يخطفهم الجنون. الحرب عدوة الأم يا بني. الحرب عدوة الأنثى وانكسار الرجال. 

كنت أتعكز بغيابهم على أحلامهم، وعلى السرير المعدني الذي لا أفرط فيه. كنت كما الأرجوحة بين حضورهم وغيابهم. كانت الليالي تمر بسلام بعيدة من كل أوجاع هذا العالم. تواطؤ مع غيابهم القسري. وكنت المغيب والغائب بهم. 
عادت صورهم في ساحة البيت، وعلى الشبابيك وعلى جانب الطريق الملاصق لقريتنا. وحدها صورة محي الدين كانت غائبة يومها، (Muhyiddîn mîrîea). محي الدين مرييا، الصوت الوحيد الذي خطفني إلى الطريق الأول للمدينة حيث كانت عيناي معلقة به وهو بعمر العشر سنوات. أدركت حينها كل الخوف المتربص بي حوله. مات محي الدين في المكان الذي دفعته إليه كي أحميه. مات وهو يختلس من التعب والغربة ساعة للفرح مع أخيه ورفاقه. غرق في نهر دجلة وأعيد جسده إلى القرية. يومها لم تشرق الشمس ولم أرَ سوى طفل في حافلة يشبه كل الأطفال الذين رأيتهم في طريق الهروب الأخير.

أعدت أبنائي ولم يكن للبكاء وقت. تحولت إلى وحش سيقتل من يقترب من أبنائي (داعش، النظام، الجيش الحر، والقوات الكردية). سأحولها إلى حرب الأم التي لا تموت إن اقترب أحدهم من أبنائي.
لم تمضِ سوى أيام حتى استيقظنا على أصوات القصف وأصوات الحافلات التي لا تسير على الطريق المحاذي لقريتنا بهذا الوقت. كانت قوافل من حافلات ودرجات وتراكتورات محملة بالنساء والأطفال والشيوخ. القادم الجديد وحامل صولجان المحرقة هنا، وعرفنا أنهم حراس الله وسيّافوه. يقتربون يا أمي. علينا ان نبتعد. قالها ولدي خالد وهو يحمل طفلته التي لم تكمل الرابعة. 

سنذهب مع القافلة. هكذا، عدنا كلنا الى هروب آخر. لم يكن كهروبنا الأول من مدينة حلب. الآن لا أمل في العودة ولا حتى التفكير فيه، هربنا من دون أن نغلق الأبواب. تركناها مشرعة للدمار والحرق، برغبتنا تركنا كل شيء. ولم أستطع ان أدرك سوى أنني هذه المرة مع أبنائي نموت معاً او نبقى معاً. الطريق غير واضح، والدليل هو الأسلاك الشائكة وأبراج العسكر التركي، وأصوات الرصاص الذي بدأ لإبعاد الهاربين عن الخط الفاصل.. وأضواء السيارات التي أجبروا على اطفائها. جلسنا حين وصلنا على التراب، مشكلين كومة بشرية مزجها الخوف، فتحولنا إلى صورة قد يراها الله بشكلها الكامل. اختلطت الأقدام بالوجوه، والأطفال بالشيوخ، والصراخ بالبكاء. إختلط حينها الخوف بالحقد. لم نشعر هذه المرة بأمل أو نجاة. كنا ننظر الى الخلف، إلى الطريق الذي لا ينقطع من البشر وكأنهم يخرجون من فرن يخبز المدينة والقرى، ليمتد من النار والدخان خيط من بشر لا يشبهون إلا الغياب. وكأنها لعنة الريح يا بني. هنا، لا شيء، ولا هناك مخابز ترسل البشر من المحرقة إلى المحرقة.
 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها