السبت 2015/01/24

آخر تحديث: 14:21 (بيروت)

نحن أبناء يناير.. سجن الخلاص

السبت 2015/01/24
نحن أبناء يناير.. سجن الخلاص
increase حجم الخط decrease

لم تحدث الثورة! هكذا أقول لنفسي. لم تخرج الملايين، ولم يمت أحد.. ولم تتبعثر مكعبات العالم على أرضية الغضب المتسرب من الحناجر لينتهي كل ذلك إلى.. لا شيء!

لكن الواقع أقل رحمة من خيالي، والذاكرة ملعونة تعرف كيف تنتقي من زحمة الأحداث اليومية مساراً متتابعاً من المشاهد التي تعصر القلب. مشاهد بقيت رائحتها وشريط الصوت المصاحب لها كفيلم تسجيلي طويل، يبدأ يوم 27 يناير.

قبل اليوم الموعود بساعات قليلة، كنت أجلس في أحد المقاهي مع الأصدقاء نتكلم عن الغد القريب.. المشاعر متفائلة وقلقة في الوقت نفسه، والقلوب توشك أن تتوقف من احتمالات الفشل. السيناريوهات المتخيلة لليوم متنافرة إلى حد الضحك، لكننا لم نضحك.. الأمل عظيم والخوف مثله.

***

على ذلك، انطلقت حيواتنا في طريقها بأحلام عن يوتوبيا شخصية في لحظة جماعية. لم تكن المسيرات التي خرجنا فيها رغم هتافاتنا الموحدة سوى طاقة، رغبة مشتركة في تحقيق مكاسب فردية.. أمشي مع الأصدقاء وأصرخ بأعلى صوتي "الشعب يريد إسقاط النظام" بإيقاعها الموسيقي الرتيب.. كل مفردة في الهتاف لها إحالة خاصة لدي.. الشعب=الذين أحبهم، يريد=رغبات ناقصة في واقع راكد، إسقاط=السنوات التي مرت هباء في كلية لا أحبها، النظام=ممثل كل ما أكره في العالم وأنا الفوضوي المهمل الكسول.

***

النوم على الإسفلت، تحول من مجاز سينمائي إلى حقيقة تحدث، غير أنه ليس مريحاً كالمجاز. الأجساد تصطف إلى جانب بعضها كجثث متأهبة لقيامتها. منهكين ومتعلقين بملاحمنا، كنا ملحميين أكثر من اللازم، أو ربما أقل من اللازم.. المشهد يحاول أن ينظم سورياليته، أن يفسرها، أن يحولها إلى فعلٍ سياسي، ولحظة الانعتاق قريبة، نشعر بها، حتما هي قريبة، لكن متى؟

***

يوم 11 فبراير، يصلح كمشهد ختامي مكتمل الأركان. كل عناصره قامت بدروها على خير وجه: الرئيس تنحى، المعتصمون احتفلوا، موسيقى الطبول وحناجر تغني وتتخيل مستقبلاً مثالياً. ستكون البداية من مكان التغيير، ننظف الميدان بحماسة، أوركسترا من الأيدي تزيل آثار أيام عصيبة، أيدٍ أرادت أن تجرب كتابة تاريخها.. ويبدو أنها قد فعلت.

***

الثورة بالنسبة إلينا كانت الخلاص من الركود، الخلاص من الملل. الخلاص من كل ظرف كنا فيه، انعتاق من الراهن السياسي والاجتماعي المتكلس. ارتجال كامل خارج نص الدولة ومشهديتها المعادة. لم ندرك أن التشبث بالخلاص في حد ذاته يضعنا في معضلة أن "ماذا بعد" وقد تخففنا من ثقل الماضي، لنجد أنفسنا داخل سجن الخلاص، ولم تكن إجابة الحاضر كافية لسؤال المستقبل، فتوالت مشاهد في سياق غير الذي تخيلناه.

***

بعد أربع سنوات أنظر خلفي وأقول "يا إلهي!" كيف تجردنا من تفاصيل الملحمة وبقي هيكلها فارغاً؟ فيما نحاول أن نقنع أنفسنا بأن ما حدث كبوة مؤقتة وسيعود المسار كما حلمنا به. لكن تراكم الغرائب حوّل أحلامنا هباء. اليوم، يتمنى كثُر إن يعودوا بالزمن إلى ما قبل بعثرة مكعبات الواقع، ربما ليفهموه أكثر، قبل أن يجثم على أنفاسنا المهرجون.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها