الجمعة 2014/10/24

آخر تحديث: 16:47 (بيروت)

الانترنت نجحت داعشياً دون "الربيع العربي"!

الجمعة 2014/10/24
الانترنت نجحت داعشياً دون "الربيع العربي"!
increase حجم الخط decrease

أذكر أن صوته جاء عذباً كالعادة، ومثقلاً بلهاث التدخين (وهو أمر ألِفته)، لكن رنت فيه نبرة اخرى. ثمة فرح فائض كان يصعب مغالبته. وسرعان ما كشفته الكلمات. كان زميلي الصحافي الشاب يتحدث عن "نموذج" الانترنت، عن قيم تحملها الشبكة العنكبوتية، عن مشروع تنوير ونهوض عقلي وتحرّر إرادة شعوب، محمولة على نقرات الـ"ماوس" وضربات الأصابع الشابة على لوحات المفاتيح.

لم يكن أمراً مستغرباً، رغم أنه الآن يثير الكثير من الشجى والأحزان، ليس أقلها أن صاحبي الشاب اضطر إلى الهجرة من بلاده، لأن الظلام كثيف في المنطقة العربية، ولأن ما توقعه من أنوار تنبلج من شاشات الانترنت هو ما لم تره عيناه. وقبل ذلك، حين جاء اتصاله في عزّ "الربيع العربي"، كانت الأمور مختلفة تماماً، على الأقل بالنسبة لكثيرين. من ينسَ ذلك الحبور الهائل، ذلك الفرح المتوثب، تلك الليالي البيض الشبيهة ليالي العاشقين الرومانسيين في الحكايات، التي عاشتها العيون بانتظار الأمل الذي حمله "الربيع العربي".

ما لا تحمله "صهوة" الانترنت
في تلك الأيام من انبلاج ضوء "الربيع العربي"، كانت لا تزال طريّة في الذاكرة، العلاقة القويّة بين الانترنت ومجموعة متناقضة من الظواهر السياسة المتّصلة بالعالم العربي. ومن المهم التشديد على أنها ملمح "التناقض" بين تلك الظواهر، لأنها تؤكّد ببساطة أن الشيء المشترك بينها (العلاقة الوطيدة مع الانترنت، بل إلى حدّ الولادة على الألياف العنكبوتية والفضاء الافتراضي وبرامج الكومبيوتر)، لم يكن كافياً لإزالة التناقض والتفاوت والتعارض بينها. بعبارة اخرى، لم يكن الانترنت، بمحمولاته وما يرمز إليه، يكفي لصنع نسق من الأفكار أو لتعزيز منظومة من المفاهيم.

من المستطاع البدء من أحد طرفي المروحة الواسعة للعلاقة "المتنافرة" بين الانترنت والسياسة في المجتمعات العربيّة. في 11/9 سجّل تنظيم "القاعدة" أنه متمّرس بالمعلوماتية والاتصالات، إلى حدّ أنه التنظيم الأول في المنطقة الذي استخدم برامج كومبيوتر في إعداد كوادره وتنظيم عمله. إذ ثبت أن طيّاري "القاعدة" استخدموا بكثافة برنامج "فلايت سميولايتر" الذي تصنعه شركة "مايكروسوفت" العملاقة في التدرّب على هجمات الإرهاب في نيويورك وواشنطن. أبعد من ذلك، عرف تنظيم "القاعدة" بأنه أول تنظيم سياسي التقط الانترنت في رسم صورته تنظيميّاً. ولأنه وُلِد على بعد مسافة قليلة من انتشار الانترنت، استعمل "القاعدة" الانترنت في صنع شبكة تمويله ماليّاً، والاتصال بأعضائه المنتشرين في دول عدّة. وبقول آخر، التقط "القاعدة" ملمح العولمة من الانترنت، بأكثر مما فعلت الأحزاب السياسيّة في المنطقة كلها.

في خطوة أعمق وأعمق، تحوّلت الشبكة العنكبوتيّة إلى "شكل تنظيمي" لـ"القاعدة". ويتميّز كلاهما بأنه مفكك متناثر، وهو ما يتضمّنه تعبير العنكبوتي في الانترنت التي صمّمت كي لا يكون لها مركز ولا رأس، بل كي تصمد وتستمر حتى لو ضربت في غير مفصل. وعلى غرار الصراع الصامت (لكنه حضاري بامتياز) الذي دار بين مؤسسة الدولة عموماً وشبكة الانترنت، كذا سار الحال مع "القاعدة". وبقدر كبير كان صراع الانترنت مع مؤسسة الدولة الراسخة في المنتظم العالمي المؤسس على الدول وسيادتها منذ معاهدة "وستفاليا"  1648، هو صراع من النوع الذي يوصف بأنه "صراع لامتكافئ" Asymmetrical Conflict لأنه يدور بين "شبكة" من أفراد ومنظومة من دول، كذا وُصِف الصراع مع "القاعدة" بأنه من النوع اللامتكافئ، وللسبب عينه! (عاد هنري كيسنجر إلى منظومة "ويستفاليا" ومساراتها في كتابة الأخير "نظام العالم" ، الذي صدر في السنة الجارية. وتذكيراً، لكيسنجر مساهمات قويّة في مسألة الصراعات غير المتكافئة، خصوصاً أنه خاض تجاربها في فيتنام وأفريقيا والشرق الأوسط).

خيوط العنكبوت لم تمنع تبدّد "الربيع"
في "الربيع العربي"، برز وجه آخر من تفاعل المنطقة وثقافتها مع الانترنت، تمثّل في الدور الهائل الذي أدّاه الانترنت في ذلك الحراك الذي لم تشهد له المنطقة مثيلاً في تاريخها المعاصر كله. ليس جزافاً، ولكنه كان مبالغة، أن سارع البعض إلى تسميته "ربيع الفايسبوك". ولم تتأخر كثيراً التقارير التي تحدّثت عن تدريب شباب عرب عبر الانترنت على أساليب الانتفاضات الديموقراطية. قبل أن يحرق محمد البوعزيزي نفسه في خريف العام 2010، شهدت الانترنت ولادة تنظيم سياسي آخر على الانترنت، من المستطاع اعتباره الصورة النقيض لـ"القاعدة": حركة "6 إبريل" المصرية. وعند ولادتها، أحدثت تلك الحركة خضة كبرى في مصر، بل في العالم العربي. ففي حال من الركود والقمع، استطاعت "6 إبريل" تنفيذ إضراب عام احتجاجاً على تجديد رئاسة حسني مبارك، وهو أمر لم يكن متصوّراً لأن ترهل الحال السياسي والثقافي في العالم الفعلي عربيّاً، جعل أقصى ما يصل إليه الاحتجاج حينها، هو وقفات لا يزيد عدد المشاركين فيها على المئات، وتصل إلى الألوف في حالات نادرة.

ولم يشفع لـ"6 إبريل" أنها شبابية ومستنيرة، ولا أنقذتها متانة علاقتها مع الانترنت، من عذابات ما بعد "الربيع العربي". لم تتحوّل تنظيماً عنكبوتيّاً يشبه الانترنت، وهو الأمر الذي نجحت فيه "القاعدة" بشدّة كبيرة، على الأقل قبل مقتل أسامة بن لادن.

ولأن تنظيم "داعش" وُلِدَ من رحم "القاعدة"، حمل معه أشياء كثيرة مما ارتسم في ثنايا علاقة ذلك التنظيم العنكبوتي المعولم، مع الانترنت الشبكيّة المعولمة. تمتد تلك الأشياء من الطابع المعولم لمقاتلي "داعش"، إلى الاستخدام المكثف للانترنت سواء في الاعلان والدعاية ومعركة كسب العقول والقلوب، أو في التنظيم وجمع الأموال وجلب الشباب.

هناك تناقض هائل مسكوت عنه بشدّة (باستخدام فكرة المسكوت عنه من المفكر الفرنسي أغامبين): يأتي كثير من مقاتلي "داعش" من قلب الدول التي تصنع الانترنت وتدفع تطوّرها وعولمتها، إضافة إلى كونها دول ديموقراطية.

وفي السياق، لم تقدّم الثقافة المستنيرة في العالم العربي، أي أشكال تنظيمية فعالة ترتبط بمسارات الانترنت وصفاتها، على رغم العلاقات الوطيدة بين تلك الأنماط من الثقافة والمركز الغربي وأنساقه الفكرية التي ولدت الانترنت فيها. كيف يمكن تفسير ذلك التناقض؟ الأرجح أن الأمرين الأخيرين يحتاجان نقاشاً أوسع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها