الجمعة 2015/03/27

آخر تحديث: 15:21 (بيروت)

"الفان" كمختبر للقصص الصحافية

الجمعة 2015/03/27
"الفان" كمختبر للقصص الصحافية
increase حجم الخط decrease
كل مرة أجلس فيها داخل "الفان"، أتقصد التعرف الى الجالسين قربي. لن تكون الجلسة بطبيعة الحال، أنيسة، واحتمال سقوط المقعد وارد دوماً، ومعاناة الشم ايضاً، تزيد من ريبتي.

روائح المتعبين في رحلات يومية بين مدينتين، واحدة ينتمون إلى نومها، وأخرى يمررون فيها شقاء أشغالهم. وعساكر يأتون من نقاط تمركزهم ويعودون الى مناطقهم البعيدة، ويشغلون المقاعد نوماً او اتكاءً، وهم يمجون سجائرهم بقلق. فهم بعد استهداف بعضهم في حوادث طرابلس، واطلاق النار عليهم وهم داخل الفانات، صاروا أكثر حذراً. تبدو جلساتهم مرتبكة، وحكاياتهم "المبتورة"، وهم يروونها، معممة. يأخذون في حسابهم المكان والزمن، ومحطاتهما. كأنهم لا ينتمون الى بلد واحد، أو كأنهم خارج سياقات قبائلهم، التي تحميهم. فيكون الفان، للصحافيين اختباراً للعساكر. فهم يعبرّون فيه عن صورة "ناقصة" لهم، خارج حياتهم "الآمنة"، او سوابقها. وقد يمررون معلومة ما (على هامشيتها)، ذات دلالة.

وأيضاً في الفان يغالبنا النعاس الذي يعبر روؤسنا على مهل، فنبدو جميعاً في إغماءة مؤقتة، يخرجنا منها مطب مفاجئ او زمور طائش، لكن الثابت دوماً (رغم كل هذا) ان الكلام متاح بين بعضنا البعض ولو لربع ساعة. وهذا الكلام، من دون اطالته، لا عودة منه. اذ نتبادل مروياتنا عن البلد والحوادث، كأننا نصوغ نشرة بلا قيود. تخصنا. نشرة "ابن البلد"، الذي يرى ما يحصل، من دون تحليل أو عمق (العين الأولى/الشاهد العام). أحاديث، على سرعتها، تترك اثراً. يتغير الجالسون، ومعهم تتغير القصص التي أسمعها. خيبة الاكتشاف ومتعته، يجعلانني أتحمّل سيئات الرحلة. وأجد أن ما يربطني -صحافياً- بهذا الحيز المتحرك، هو اعترافات ركّابه وبوحهم الذي يأتي صادماً، كأنها مشاركة حميمة بعراء بيوتهم وشققهم وناسهم وحيواتهم الشخصية. وأيضاً أخبارهم العادية وما ينقلونه، محرّفاً كان أو حقيقياً. 

يأخذني الجلوس إلى حكايات وسير وشهادات، وأفكار وأشخاص، يمكن ان تكون مقالات ومواد حيّة مكتوبة ومصورة في متابعاتي، أو تكون خيوطاً مرتبطة بقصة ما، لاستكمال تحقيق أو لتنفيذ تقرير ما زال عالقاً في رأسي ولم أجد له طريقاً سالكة. إذ التقيتُ، في احدى المرات، بسيدة تعمل في إعداد طبخات أسبوعية لعائلة بيروتية، أخبرتني أن ابنها مقاتل في باب التبانة، وأنه أصيب في المعارك الاخيرة. وسردت لي تفاصيل مقتل زوجها في أيام المجزرة. وكان لهذا الحديث دافعاً لزيارة المرأة لاحقاً وتسجيل شهادة لها عن مجزرة التبانة وتأثير ذلك في حياتها كامرأة أمست من دون معيل، ومجبرة على إعالة أولاد ستة.

لازمتني رغبة التنصت الى كلام الجالسين منذ سنّ السابعة عشرة، حين كنت انتقل الى بيروت ومنها. وتعزز الأمر، بعد ارتباطي بصحف بيروتية، والعمل في بعضها، الى أن قررت ترك العاصمة بعدما سكنت فيها ثلاث سنوات، والعودة للسكن، بشكل مجازي، في الفان، كوني أقضي فيه وقتاً أكثر مما أمكث في المكتب أو في بيت أهلي في طرابلس.

يحاول الجالسون، وهم يستمعون الى نشرات الاخبار الاذاعية، التعليق على بعض الاخبار الأمنية الصغيرة، أو قصص التعنيف او الفساد الغذائي وغيرها، وقد يكونون على علاقة بأشخاصها ومحيط هذه الحوادث، فيعلقون بما يشبه التصريح، ويكون ذلك بمثابة معلومات اضافية "تدوّن" في ذهني كملاحظات عامة. رسَّخ هذا "السكن المجازي" عادة الاستماع وبشغف تام، وذلك في جلوس متنقل خلف مقعد السائق (حصراً، لاستراتيجيته في الانصات)، ومع الاعتياد على اغان شعبية، أكثرها ينتمي الى أذواق السائقين الآتين في غالبيتهم من قرى وبلدات وادي خالد الحدودية، او من جرود عكار والضنية أو بشري والكورة، او من طرابلس نفسها. وهم غالباً يتحولون الى مصادر سؤال، عن قصة ما. مثلما يحصل في أمور كثيرة، أمنية أو ف حوادث متعلقة بأماكن بعيدة، لا يمكن الاعتماد فيها فقط على مصادر أمنية او رسمية، او حتى إعلامية. فيتحول السائقون، ومعهم الركاب، إلى "مفاتيح"، وهو مصطلح يستخدم انتخابياً. لكن، صحافياً، هم مفاتيح لأشخاص ومعلومات تفيد في المتابعات أو في الوصول الى مصادر مؤكدة، او الى أشخاص بعينهم.

بدأتُ مع الوقت أحاول إيجاد سبب ما للتحدث مع الجالسين، وتدوين ملاحظات في الرأس. أدركتُ باكراً ان انتقال القصة الشفهية الى الأذن مباشرة لها وقع أكبر. معرفة القصص مباشرة من الناس تصبح ذات أهمية عليا في البحث الصحافي، والفان على عبوره، محطة مهمة في البحث، والتقصي.

وربما اكتشفتُ باكراً أن الفان مختبر حيّ للبحث عن قصة صحافية. لا مبالغة في الاعتراف بأن جلسات الفان عرفتني إلى شبان كثر، على صلة برفاق لهم قاتلوا في سوريا. بعضهم، وبعد مرور أشهر من صدفة تلاقينا طوال ساعتين متواصلتين وتشاركنا فناجين قهوة مصبات، او كعكاً بالسمّاق، صاروا يروون حكاياتهم بوضوح أكثر. كأنه أصبح متاحاً دخول مساحة الثقة. فنتبادل حساباتنا في "فايسبوك"، وأرقام هواتفنا. يأخذونني معهم في جولات الى مناطقهم للتعرف الى مشكلاتها، او يخبرونني بمعاناة النازحين. بعض هؤلاء لا يتوانى عن إرسال أخبار "ساخنة"، أو صُور، كأنهم يحاولون ان يكونوا مراسلين ميدانيين.

وأنا أعترف بأن جلسات الفان، باتت، من دون تخطيط محسوبة على ساعات العمل.. لكنها الأكثر شغفاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها