الخميس 2024/02/22

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

ثناء دبسي.. الأم مدى الحياة

الخميس 2024/02/22
ثناء دبسي.. الأم مدى الحياة
increase حجم الخط decrease
يصعب تذكر أدوار محددة للممثلة السورية ثناء دبسي التي توفيت عن 83 عاماً، في دمشق هذا الأسبوع. ليس بسبب ندرة مشاركاتها الفنية، بل لأنها قدمت بكثرة واستمرار شخصية الأم في المسلسلات التلفزيونية، حتى في شبابها أيام الأبيض والأسود قبل عقود، ما يخلق انطباعاً بوجود حالة من التكرار لدى فنانة كانت تقدم تفاصيلاً متميزة في الواقع.


ومهما كانت الأداءات التي قدمتها دبسي مختلفة عن بعضها البعض، لا يمكن سوى الشعور بأن الممثلة قدمت شخصية واحدة تعيش في عوالم متوازية، بدلاً من أن تكون شخصيات متمايزة كلياً. ويعود ذلك إلى حقيقة أن الدراما السورية كرست شخصية الأم نفسها كنمط اجتماعي خالٍ من أي نزعة فردية، ضمن سياق أكبر حاضر في الدراما المحلية عموماً منذ عقود، ويقوم على تقديم الأنماط الاجتماعية المطلوب اتباعها من قبل الأفراد، مع سيطرة السلطة على الفضاء الثقافي والإنتاجي عموماً وإقصاء العديد من الفنون والآداب الأخرى وحصرها بإطار النخبوية.

ويمكن تلمس ذلك في الدراما الاجتماعية تحديداً، حيث تلعب الأم عادة دور البوصلة الأخلاقية التي تحدد ما هو الصحيح وما هو الخطأ، بالحنان والنصيحة إن كانت القضية الأخلاقية التي يعاني منها الأبناء بسيطة مثل عدم الرغبة في الزواج، أو بالصفعات والقسوة إن كان الموضوع خطيراً مثل امتلاك مواقف سياسية معارضة. فيما تمثل الأم نفسها مفاهيم أخلاقية مثل الشرف والفضيلة والعفة بشكل يحدد من الفتيات ما هو المطلوب منهن للقيام بالدور الجندري ضمن المجتمع والذي قد يقتصر أحياناً على الإنجاب والاعتناء بالأطفال.

وتشكل أدوار الراحلة دبسي نماذج مثالية لتفسير ذلك النمط، فأدت في مسلسل "زمن العار" (2009) دور أم منذر المريضة التي تراقب من سريرها تفكك عائلتها "غير الأخلاقية"، من زوجها (خالد تاجا) الذي يتمنى موتها كي يتزوج امرأة صغيرة في السن، إلى ابنها الفاسد المرتشي (مكسيم خليل). وكانت علاقتها بابنتها بثينة (سلافة معمار) جزءاً أساسياً من القصة التي تحاول تفسير ما هو الأخلاقي، خصوصاً بالنسبة لفتاة غير متزوجة ضمن بيئة ذكورية تكون فيها الأم أكثر ذكورية من الأب أو الأخ، مهما كانت الفتاة متفانية في تقديم الرعاية الصحية والحب للأم التي لا ترضى على تصرفات ابنتها. وفي المشهد الذي تمزق فيه أغطية السرير، تعطي دبسي انطباعاً بأن العائلة نفسها تتمزق بسبب عدم وجود أم ترشد بقية أفراد الأسرة إلى الطريق الصحيح.

وفي مسلسل "ترجمان الأشواق" (2019) جسدت دبسي مجدداً شخصية الأم التي تنتظر ابنها (عباس النوري) المثقف اليساري، الذي غادر البلاد هارباً بعد تجربة سجن قاسية عطفاً على مواقفه السياسية، وعاد إليها مضطراً وسط الحرب، للبحث عن ابنته المختطفة بعد الثورة السورية. وبالطبع فإن الأم تلوم مسألة خطف حفيدتها على مواقف ابنها السياسية المعارضة قبل عقود، وتقوم بصفعه مرات عديدة، فيما يقوم المسلسل على تقديم ثنائية "الأم والوطن" الحاضرة في أدبيات النظام السوري على المستوى السياسي والدعائي أيضاً.

وحتى عندما لعبت دبسي شخصية "مركبة" وأكثر تعقيداً في مسلسل "عصي الدمع" (2005) بأدائها دور امرأة من تنظيم "القبيسيات" تقوم بإعطاء دروس دينية للنساء في منزلها، فإن علاقتها التربوية بابنها (حاتم علي) غير المتزوج، طغت على ذلك التفصيل المثير للاهتمام في مجتمع شهد اتجاهاً متزايداً نحو التشدد الديني بشكل ظهر بوضوح بعد الثورة في البلاد العام 2011.

ولعل الدور الوحيد الذي لا علاقة له بشخصية الأم، ويمكن تذكره لدبسي، كان مشاركتها في إحدى حلقات مسلسل" الفصول الأربعة" عندما جسدت دور "الآنسة كفاية" التي تزور طلابها القدامى، وتقدم فيه النمط نفسه من التلقين والبحث عن البوصلة الأخلاقية في زمن كانت فيه التكنولوجيا تتسارع بشكل غيّر العالم كله إلى ما هو عليه اليوم. إضافة إلى مشاركتها في برنامج "سبحان الله" الديني الذي كان يعرض في رمضان قبل الإفطار.

وتعتبر دبسي، إلى جانب شقيقتها الأصغر ثراء والفنانة فاديا خطاب، من فنانات حلب القليلات اللواتي تمكن من الحصول على مساحة أوسع في الدراما السورية على مر عقود. وشاركت دبسي في مسلسلات حلبية مثل "الثريا" و"باب الحديد"، من دون أن تحصر نفسها في إطار البيئة الحلبية الضيقة التي حالت، في حالة فنانات أخريات، مثل هدى الركبي والراحلة ماكدة مورا، دون بروزهن والعمل في الدراما السورية الأوسع، مع عدم استمرار إنتاج مسلسلات حلبية مثلما كان عليه الحال في تسعينيات القرن الماضي. 

ورغم ذلك التنوع فإن حضور دبسي بقي مرتبطاً بشخصية الأم، بشكل لا يمكن تفسيره حتى بالمقارنة مع فنانات من جيلها، مثل الممثلة منى واصف (82 عاماً) التي قدمت شخصيات متنوعة ضمن مسيرتها الفنية الطويلة، أو الراحلة نجاح حفيظ التي تم تنميطها لاحقاً لأداء شخصية الأم الحنون، لكنها بقيت حاضرة في ذاكرة الجمهور بشخصية "فطوم حيص بيص" التي حولتها إلى أسطورة كلاسيكية.

وحتى في حياتها الشخصية، كانت دبسي المتزوجة من الفنان سليم صبري، مرتبطة بشخصية الأم، لأنها والدة الفنانة يارا صبري التي عارضت النظام السوري بشراسة بعد ثورة العام 2011، وغادرت البلاد لاحقاً مع زوجها الفنان ماهر صليبي إلى الإمارات ثم إلى كندا. وطوال العقد الماضي كانت دبسي حاضرة في مواقع التواصل وفي اللقاءات الإعلامية بصورة الأم المفجوعة على غياب ابنتها البعيدة عنها، خصوصاً في فترة جائحة كورونا العام 2020، واليوم عند وفاتها تكرست تلك الصورة أكثر حتى من الحديث عن إرث الراحلة الفني الطويل.

وتنتمي دبسي إلى جيل مؤسسي الدراما السورية، وكانت من الفنانين المؤسسين لانطلاقة المسرح القومي مطلع الستينيات، ولعبت العديد من البطولات المسرحية على مدى سنوات طويلة. وبدأت رحلتها في التمثيل منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث تركت دراستها الثانوية وانتقلت مع شقيقتها ثراء دبسي إلى دمشق. وشاركت الشقيقتان في عروض مسرحية لفرقة "مسرح الشعب" لدار الكتب الوطنية في حلب، وروت الشقيقتان في لقاء إعلامي قبل سنوات، كيف تمردتا من أجل تحقيق أحلامهما الفنية، وكيف دعمهما والدهما من أجل تحقيق ذلك الحلم.

وقدمت ثناء أعمالاً تلفزيونية وإذاعية وسينمائية ومسرحية، منها مسلسل "أولاد القيمرية" و"الشمس تشرق من جديد" و"سيرة آل الجلالي" و"البيت القديم" و"القناع" و"بنات العيلة" و"عصي الدمع" و"زمن العار" و"وراء الشمس". وفي المسرح، قدمت مسرحية "شيترا" العام 1961 و"مروحة الليدي وندرسير" و"الأخوة كارامازوف" و"عرس الدم" و"زيارة السيدة العجوز" و"الأشجار تموت واقفة"، ثم توقفت عن العمل في المسرح العام 1978 لأكثر من 22 عاماً لتعود العام 2000 بمسرحية "تخاريف".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها