الإثنين 2023/06/05

آخر تحديث: 23:02 (بيروت)

أعرفُ العشرات من "غادة والي"..

الإثنين 2023/06/05
أعرفُ العشرات من "غادة والي"..
إلى اليمين: العمل الأصيل للفنان الروسي خورخي كوراسوف.. وإلى اليسار: عمل غادة والي المسروق
increase حجم الخط decrease
قبل فترة وجيزة، انشغل المصريون بظهور فنان تشكيلي روسي يُدعى خورخي كوراسوف، يتهم الشابة المصرية غادة والي، بسرقة تصاميمه واستخدامها في أغراض تجارية لصالح شركة مشروبات غازية. والغريب أن هذا هو الاتهام الثاني من الفنان نفسه، لوالي، بعدما كانت قد سرقت رسومه أيضاً لإنجاز مشروع تجميل محطة مترو "كلية البنات" بالقاهرة. عام واحد فقط بين السرقتَين.

ظهرت والي في لقاء مع الإعلامي عمرو أديب، ودافعت عن سرقتها بوقاحة، مُتهمةً مواطنيها المقتنعين بما قاله كوراسوف، بأنهم مُعادون لمصر وينتمون إلى "الإخوان"، بل إن كوراسوف لا يحب مصر وهو مَن سرَقها!... هذه رُدود ابنة الطبقة المخملية التي وُلدت وفي فمها ملعقة من ذهب، ولا تكلف نفسها عناء الاجتهاد، تستحوذ على جهد غيرها لتنسبه إلى نفسها وتتهم الآخرين بتقليدها أو سرقتها.

غادة والي، التي كرّمها "منتدى شباب العالم" العام 2017 في شرم الشيخ، هي ابنة المرحلة، بل لعلها هي المرحلة شخصياً. ليست فريدة من نوعها. خلال الأعوام العشرة العبثية الماضية، قابلتُ العشرات من نموذجها في عملي الصحافي. يفترض أن عملنا مصنّف أيضاً في خانة الإبداع. فبالإضافة إلى شروط النزاهة والدقة، ما يميز صحافي عن آخر هو إبداعه في اختيار زوايا أصيلة ومثيرة للاهتمام لمعالجة موضوع ما. لكني شهدتُ "زملاء" ينقلون حرفياً عن غيرهم، ثم ينسبون المجد لأنفسهم. أحدهم قال لي يوماً: "أحياناً لا أستطيع تغيير صياغة ما أنقله لأنه يعجبني هكذا، وربما إن عدَّلتُه، شوَّهتُه"!

قبل بضع سنوات، كنت أعمل في الصحيفة نفسها مع "صحافي" تم فضحه مراراً بسرقة تحقيقات زملائه ونقلها إلى جريدة أخرى عمل فيها لاحقاً. المعالجة نفسها، والمصادر وحتى التصريحات نفسها، مع تغييرات بسيطة. كان "شغل شقلبة"، بحسب التعبير الذي بات دارجاً في أوساط الصحافيين المصريين. المدهش أن ذلك الصحافي أصبح، بعد أشهُر من تلك الفضيحة، رئيساً لقسم التحقيقات، ثم سكرتيراً للتحرير، وحالياً هو أحد المدربين المشهورين في مجال الصحافة الاستقصائية، ونال جوائز عديدة محلية ودولية. لم تتوقف سرقاته ولا ترقياته حتى الآن.

أنا أيضاً سُرِقت مرات عديدة. في البداية، كنت أثور وأهدم الدنيا صياحاً، حتى أدركتُ أنه لا فائدة من الأمر، واستسلمتُ للحال السائدة في مصر.

ذات مرة، أجريتُ حواراً مع أول عازف على آلة غير معروفة في مصر والعالم العربي، وقعت صفحته تحت يدي مصادفة، وبعد التحضير ودراسة تاريخه والقراءة عنه وعن الآلة، بكل اللغات الممكنة، نشرتُ رابط حواري معه في صفحتي الشخصية في فايسبوك، وأضفتُ رابط صفحته ليعرفه الناس. وبعد أسبوع بالضبط، فوجئت بصديق يرسل لي رابطاً ويسألني: "إيناس هل قرأتِ هذا؟". كان ذلك في اليوم الأول من عملي في قناة محلية، وكنت تحت ضغط إثبات جدارتي. لم أتمالك أعصابي، ارتفع ضغطي، ورحت أدخن بشراهة في محاولة للسيطرة على أعصابي. الرابط أنبأني بأن زميلة لي، وكانت أيضاً صديقة مقربة آنذاك، نقلت الحوار إلى مجلة أخرى، وعدّلت جزئياً في المقدمة، واجتهدت في تغيير صياغة بعض الأسئلة الأولى، لكنها تعبت على ما يبدو، فنقلت بقية الحوار كما هو، ثم أضافت سؤالاً أخيراً لا يقل تفاهة عن سطحيتها في فهم الحوار أو الآلة الموسيقية أو الفنون عموماً.

قلت لمقرّبين مني: "لو كانت سألَتني قبل السرقة، لأخبرتُها بأسئلة أخرى يمكنها أن تطرحها على الفنان، وكيف تجري معه حواراً مختلفاً عن حِواري.. مش عيب؟!". تواصلت مع الموقع الأصلي الذي أجريت الحوار لصالحه، فقالوا لي بالمختصر: "كبّري دماغك.. ستعتادين على هذه الأمور". وحينما تواصلت مع المجلة التي نقلت الحوار حرفياً، قالوا: "الحوار مختلف". وحينما أرسلتُ الحوارَين لصحافيين محايدين ليسوا مقربين مني أو من "الزميلة"، جزموا بأنهما متطابقان.

وما زاد من غضبي، أن الفنان لم ينشر حواري معه في صفحته الرسمية، بل نشر الحوار المسروق الذي تلقى آلاف اللايكات وإعادة النشر. شعرت أن مجهودي سالَ على الأرض، وسألت نفسي: لماذا أتعب وأحاول التمايز، طالما أن الناسِخين والسارقين هم الذين ينجحون؟ ولماذا أكلف نفسي عناء حضور عشرات التدريبات، وخوض مراحل عديدة ومُنهكة للحصول على زَمالات محلية ودولية من أجل تطوير مهاراتي؟ أُحبِطت.

قررتُ أن آخذ حقي فايسبوكياً على الأقل. وتسلّيت لأيام بالتدوين عن تلك الفضيحة، بأسلوب ساخر، حتى لا أنفجر، ولا معدتي ولا ضغط دمي.

العجيب أن "الزميلة" كانت لا تزال صديقة فايسبوكية، رَأت وقرَأت كلَّ ما كتبتُ عنها، ولم ترُدّ. صحيح أنها باتت معروفة في الوسط الصحافي بالسارقة، لكنها، رغم ذلك، وبعد سنوات قليلة، أصبحت من كوادر مؤسسة حقوقية بارزة في مصر، وتُعرّف بنفسها كصحافية نسوية.

لم تتوقف السرقات. قبل ثلاثة أعوام، نشرتُ تحقيقاً تطلّب جُهد أشهُر طويلة، للبحث عن حالات للتوثيق، ثم القراءة المتعمقة والتواصل مع المصادر، ثم الكتابة والتحرير، ثم النشر. صحيح أن التحقيق نال استحساناً، لكني سرعان ما فوجئت بالصحافية ذاتها وقد نقلت التحقيق، بالمعالجة نفسها والمصادر والزوايا. تحقيقها هو الذي انتشر على نطاق واسع، وأخذ "السوكسيه"، واحتفى به الموقع كما لو كانت فكرة "أوريجينال".

لكني هذه المرة، كنتُ قد نضجت، وغادرَتني اندفاعتي العصبية. تفرجتُ على الأمر من بعيد، وضحكت، وواصلتُ تصفّح التعليقات لأرى بَين أصدقائي مَن يشكو "زميلاً" سرَق منه تحقيقاً أو حواراً أو تقريراً.. بل ونال عنه جائزة مهمة.

ما زلت لا أفهم. لماذا يحرز السارقون في مصر، التقدّم، فيما الموهوبون مُحبَطون أو مكتئبون أو منعزلون؟

نحن محاطون بالعشرات من أمثال غادة والي، أنصاف الموهوبين أو غير الموهوبين بتاتاً. يسطون على عمل غيرهم ولديهم إمكانات ضخمة من التسويق والدعاية لأنفسهم والتطبيل والتبجح. يسطون على ما ليس لهم، وينالون الجوائز. بينما أشخاص مثل أحمد بغدودة، البطل الأولمبي، فبالكاد يتقاضى راتب ألفَي جنيه شهرياً، ولا يجد دعماً في بلده، فيغادر إلى فرنسا ليوصَم في الإعلام المحلي بالهارب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها