الأحد 2022/03/13

آخر تحديث: 14:52 (بيروت)

هل يبقى الإعلام الفرنسي مستقلاً بعد الانتخابات الرئاسية؟

الأحد 2022/03/13
هل يبقى الإعلام الفرنسي مستقلاً بعد الانتخابات الرئاسية؟
increase حجم الخط decrease

من بين الضرائب السنوية التي يسددها الفرنسيون، ضريبة يطلق عليها "المساهمة في الإعلام السمعي والبصري" واصطلح على تسميتها شعبياً بـ"ضريبة التلفزيون". هي ضريبة موحدة تبلغ قيمتها 138 يورو وتُفرض على أي منزل مزود بجهاز تلفزيون. بمعنى آخر، يكفي أن يمتلك سكان المنزل جهاز تلفزيون كي يتوجب عليهم تسديد المبلغ المذكور للدولة أياً يكن دخلهم.

إيرادات الدولة من ضريبة التلفزيون تقارب 3 مليار يورو سنوياً والمستفيد منها هي المؤسسات الاعلامية الحكومية، أي: مجموعة "France Télévision" وتشمل نحو سبع قنوات تلفزيونية محلية، ومجموعة "France Média Monde" للإعلام الخارجي وتضم قناة "France24" وإذاعتي "مونت كارلو" و"RFI"، إذاعة "Radio France" ومحطتي "TV5" و"ARTE" ومؤسسة "INA"  المعنية بإدارة الأرشيف السمعي والبصري.

تعتمد هذه المؤسسات بشكل رئيسي على الضريبة لتغطية نفقاتها، وتمنح آلية التمويل هذه الإعلام الحكومي استقلالية تامة عن السلطة السياسية: بخلاف الانطباع السائد في الشارع العربي، المؤسسات الإعلامية الحكومية الفرنسية غير معنية بالتسويق لسياسات الحكومة، بل ملزمة بالحياد والشفافية كون مموليها من دافعي الضرائب.

لكن قبل أيام عرفت فرنسا بلبلة كبيرة بعد تعهد الرئيس إيمانويل ماكرون بإلغاء ضريبة التلفزيون في حال إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية. تعهد برره بضرورة تخفيف الأعباء الضريبية وتعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين.

وهذه ليست المرة الأولى التي يجري التداول بهذا المقترح، برنامج المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان الانتخابي تضمن بدوره إلغاء الضريبة في إطار مشروع يهدف إلى خصخصة جزئية للمؤسسات الإعلامية الحكومية. لكن ماكرون لم يشر في كلامه إلى أي رؤية أو خطة "لإصلاح" هذا القطاع، كما لم يتطرق إلى البدائل المقترحة لتعويض غياب الإيرادات.

وازداد اللغط مع تصريحات الناطق باسم الحكومة غابريال آتال، الذي شدد على تمسك ماكرون بالطابع الحكومي للمؤسسات الاعلامية المستفيدة من الضريبة. وأضاف آتال أن الغاية ليست إلغاء التمويل بل الآلية، فدافعو الضرائب سيستمرون بتمويل الإعلام الحكومي بشكل مغاير، طارحاً احتمال تخصيص ميزانية متعددة السنوات لهذا القطاع.

اقتراح ماكرون لاقى ترحيباً محدوداً على مواقع التواصل الاجتماعي واعتبره البعض قراراً صائباً سيوفر شيئاً من العدالة الضريبية، لأن ضريبة التلفزيون لا تأخذ بالاعتبار دخل الفرد أو الأسرة.  لكن غالبية ردود الأفعال أتت سلبية وعبرت بشكل رئيسي عن هواجس حيال إمكانية فقدان هذا القطاع لاستقلاليته: تخصيص ميزانية للمؤسسات الإعلامية الحكومية يشكل، من حيث المبدأ، مدخلاً لتعزيز نفوذ السلطة السياسية داخلها.

من جانب آخر، توفر ضريبة التلفزيون تمويلاً ثابتاً للمستفيدين منها، فيما العمل وفق منطق الميزانية يعني أن حجم التمويل سيتفاوت تبعاً للتوجهات الحكومية، غامزين من باب تعالي الأصوات المنادية بالتقشف بعد بلوغ الدين العام نسباً قياسية على خلفية جائحة كورونا.

مؤشرات غير مطمئنة لناحية نقص محتمل في الموارد و/أو الحد من استقلالية الخط التحريري الذي تتمتع به المؤسسات الإعلامية الحكومية. وعند الحديث عن نقص الموارد في فرنسا، أول ما يتبادر إلى الأذهان هو التسريح الوظيفي للتخفيف من الأعباء المالية، عوامل ستفضي إلى تراجع في جودة المحتوى.

في ضوء ذلك، شددت رئيسة "Radio France" سيبيل فاي في حديث مع صحيفة "Marianne" على جدوى الضريبة لكونها تمنع التشكيك باستقلالية ومهنية الإعلام الحكومي، خصوصاً في زمن انتشار الأخبار المضللة. من جهتها ردت الإعلامية اللبنانية الأصل ليا سلامة على كلام آتال متسائلة عن الضمانات للحؤول دون أي ابتزاز مالي، ضاربة مثالاً يتعلق ببث محتوى يتعارض مع السياسة العامة للحكومة أو عند محاورة شخصية في موقع القرار. كلام سلامة عكس في طياته خشية من الرقابة الذاتية.

السياسيون دخلوا بدورهم على خط الانتقاد: يان بروسا، مدير حملة مرشح الحزب الشيوعي للانتخابات الرئاسية فابيان روسيل، وصف اقتراح ماكرون بالديماغوجي معتبراً أن غايته حرف النقاش عن مساره الطبيعي. فلو كان الرئيس - المرشح جاداً في مسعاه الرامي إلى تعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، عليه رفع الأجور لا إلغاء الضرائب وتجفيف موارد الدولة المالية.

وأيد عدد من المغردين كلام بروسا: بعملية حسابية خلصت إحدى المغردات اليساريات أن ما سيدخرونه شهرياً من إلغاء هذه الضريبة لن يتعدى 11.5 يورو، مبلغ أشبه بالصدقة بحسب صاحبة التغريدة.

وفي معرض دفاعهم عن ماكرون أشار البعض إلى تزايد استخدام الفرنسيين للحواسيب والأجهزة اللوحية التي تسمح بمشاهدة القنوات التلفزيونية من دون أن تشملها ضريبة التلفزيون. لكن الردود كانت حاضرة من المغردين الذين أيدوا توسيع الضريبة لتشمل الأجهزة المذكورة.

في هذا الاطار لم يتردد الاقتصاديون في طرح بدائل متكاملة. الباحثة المتخصصة في اقتصاديات وسائل الاعلام جوليا كاجيه اقترحت في مقابلة مع صحيفة "Libération" فرض ضريبة إضافية على الأجور. ضريبة تصاعدية تستثني من يقل دخله عن 2000 يورو شهرياً لتصل في حدها الأقصى إلى 0.5% لمن يزيد دخله الشهري عن 5000 يورو.

اقتراح كاجيه يوفر الموارد المالية اللازمة للمؤسسات الإعلامية الحكومية أولاً، من جيوب دافعي الضرائب ثانياً، وعلى نحو يستجيب للعدالة الضريبية ويعزز القدرة الشرائية ومن دون الخوض في متاهة توسيع رقعة ضريبة التلفزيون، صعبة الإنجاز لوجيستياً.

الجدل الذي أثاره ماكرون مرده أيضاً إلى العلاقة المتوترة التي جمعته بوسائل الإعلام طوال ولايته: من طرح قانون الأمن الشامل، إلى منع مراسلي "RT" و"Sputnik" الروسيتين من ولوج باب الإليزيه طوال عشرة أشهر العام 2018 ومحاولات فريق عمله التدخل في عمل الصحافيين عند إجراء مقابلات مع الرئيس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها