الثلاثاء 2018/02/20

آخر تحديث: 15:43 (بيروت)

جدتي التي لم يعتذر لها المذيع

الثلاثاء 2018/02/20
جدتي التي لم يعتذر لها المذيع
increase حجم الخط decrease
تحت ظلال "بلد الشبابيك المعتمة"، ترقد الحكايات التي ترويها عجوز تجاوزت الثمانين من عمرها لتصعد بملامحها الأنثوية فوق عتبات الزمن البعيد المعبأ بقصص الثورات والهزائم، حينما كان التشرد القسري بداية مرحلة عاشها وما زال يعيشها الشعب الفلسطيني.
في ذاك الحي المكتظ بالغرباء، "حي الكفاح"، نسترق النظر إلى غرفة صغيرة تطل على حديقة ملأى بشجر اللوز والزيتون، وأضواء الليل الخافتة تحجب عنك ملامح سكان المدينة، فيما تتسابق العيون لتلقي التحية على جدتي، تلك العجوز التي لم يمنعها عجزها البصري من وصف ملامح المارة رغم عدم اختلاطها بهم. فهي، ومنذ سنوات عشر، لم تغادر سريرها الدافئ، ولم تقفل مذياعها الرمادي الصغير رغم "وشوشاته" المزعجة أحياناً، فهو منفذها الوحيد على أخبار البلاد... ولا ملاذ آخر.

في الساعة السابعة صباحاَ، يحين موعد بحث جدتي عن شادي في أغنية لفيروز، وإن لم تجده خلسة تفتح ستائرغرفتها لتبحث عن ضوء يعلمها بحلول نهار جديد. ورغم برد الشتاء، فهي تفضل تمرير بعض الهواء لرئتيها عبر تلك النافذة الواسعة، فعالمها مرهون براديو وشباك. وعادة تتساءل: "هل هناك مطر؟".. وكأن برجها "الميزاني" قد أثقل عليها يومياَ همّ البحث عن قطرات المطر.

تعاود اللجوء إلى مذياعها الصغير، بعدما رددت أغاني فيروز واحتست قهوتها اليومية. وفيما لا تشرب القهوة على عجل، تلقي بأذنها إلى حافة "الراديو" لتستمتع إلى أخبار البلاد رغم عدم قدرتها على ضبط إيقاعها بالشكل الصحيح. فهي تتقن الإمساك بالأخبار السياسية دون غيرها، وتتنقل من نشرة إخبارية إلى أخرى معلنة اصطياد أخبار الشهداء والمعتقلين، حتى أنها تحفظ أسماءهم وأسماء القادة السياسيين الذين يمرون بمسمعها، وهنا تبدأ حكايتها معي.

بعد كل جولة صباحية، وبعد قنص الأخبار تجاورني جدتي الحوار في ما حدث وما قد يحدث. فهي لا تستمع فحسب، بل تحلل وتقلب الموازين السياسية مثل الخبراء السياسيين. تمنّت ذات يوم أن تغتنم سنوات العمر في دخول معترك عالم السياسة، لكن القيود العائلية حينها أفقدتها ذاك الحلم واكتفت العائلة بتزويجها في عمر ال 15 عاماَ.

في عمر العشرين، لم تكُف يداها الصغيرتان عن قلب صفحات الجرائد والمجلات القديمة، حتى أنها كانت تجمع قصاصات من تلك الجرائد وتلصقها خفية على دفتر مذكراتها، وكانت تلتقط الصور لمدينة هُجّرت منها، وقد أضحت، بعد سنوات الحروب، لاجئة في أرض تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي.

الحروب أخفت معالم قريتها الفلسطينية المهجرة، "الرملة"، ولم تعد تلك المذكرة رهن خزانتها الخشبية كما تذكر. فكل تلك الجرائد والصور، أحرقت، ولم يتبقَ منها سوى الذكريات والحكايات التي ترويها لأحفادها اليوم.

تقول جدتي بحرقة : " آآآآآآآآآه على ايام زمان، البلاد ضاعت يا ستي".

حكايات النساء ههنا، ربما لا تجدها في بلاد أخرى. فهن يمتلكن ما هو أكثر من قصص اللجوء والتهجير. يرددن حكايات كنّ جزءاً منها.

لماذا لا تخرج جدتي من تلك الغرفة التي أسميها "المعتقل"؟ ولماذا لا تفارق صديقها "الراديو"؟  في الخارج ينتظرها عالم آخر مليء بالحياة والقصص.

بعد برهة، عادت إلى مذياعها الصغير، ترقباً لخبر جديد، وإذا بها تستمع بصمت إلى خبر استشهاد أحد أحفادها، ومن الغرفة ذاتها التي لم تفارقها. لم تصدق ملاذها الوحيد إلى العالم الخارجي، وهي لم تعهد كتمان دمعتها... في تلك اللحظة أطفأت المذياع، وفارقته شهوراً حتى نفدت بطارياته.
في الناحية الأخرى من البلدة، "بلد الشبابيك"، جلست عجوز هي الأقرب لجدتي، وظلالها تستلقي على نافذة منزلها القديم كل صباح لتلقي تحية على قبر ابنها الذي استُشهد ودُفن قرب المنزل.

لا مفر لها سوى ذاك الشباك المطلّ على روح ابنها الوحيد، وهي التي ما عادت قادرة على السير للقائه كما في السابق بسبب داء مزمن أثقل جسدها. وكانت، قبل المرض، تحمل زهرة بنفسجية، كل صباح، لتزين بها قبر ابنها، وتجلس قربه تحدثه عن شوقها إليه. حتى أنها كانت تمازحه: "صديقتي لم تعد تتشبث بالراديو.. حفيدها استشهد".
الصباحات في بلادي مليئة بالحكايات المعلقة. هنا أمّ تودع ابنها الشهيد عبر نافذة، من دون أن تلمس محياه. وهناك مذيع يعلن نبأ استشهاد طفل، يكمل قراءة النشرة الإخبارية من دون أن يعتذر لجدتي... هل كانت تنتظر اعتذار المذيع؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها