الثلاثاء 2017/09/05

آخر تحديث: 16:22 (بيروت)

"ضباب" ستيفن كينغ: في شَرّ "نيتفليكس" ما يغلب السينما

الثلاثاء 2017/09/05
"ضباب" ستيفن كينغ: في شَرّ "نيتفليكس" ما يغلب السينما
increase حجم الخط decrease
قد لا تكون سلسلة "ذا ميست" (الضباب) أفضل ما يعرض في شبكة "نيتفليكس" حالياً، لكن سلسلة الرعب المقتبسة عن رواية تحمل الاسم ذاته، لكاتب الرعب الشهير ستيفن كينغ، والمقتبسة في فيلم أيقوني العام 2007، تقدم جرعة كبيرة من الإثارة الممتزجة بالفلسفة، بطريقة تعكس واقع الاستقطاب الحاد في الولايات المتحدة اليوم بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد، إثر حملة انتخابية جدلية.


السلسلة التي ساهمت "نيتفليكس" في تطويرها جزئياً، هي مشروع من تطوير كريستيان تورب لصالح شبكة "سبايك" الأميركية، وحظيت بعرضها العالمي عبر "نيتفليكس" الأسبوع الماضي، تقدم عرضاً بصرياً مذهلاً وتقنيات بصرية تتفوق على معظم أعمال الرعب والخيال العلمي المعاصرة، وتستند على قيمة "الفوضى" كجامع للعديد من السرديات التقليدية والكليشيهات في أعمال الرعب، لبناء فلسفتها الخاصة، التي تدور حول مستويين، يتعلق الأول بالنفس البشرية عموماً، ويدور الثاني حول محاكمة الولايات المتحدة من الناحية الأخلاقية.


ويجب في البداية القول أن تقديم نسخة جديدة من رواية شهيرة تم اقتباسها في فيلم سينمائي ناجح سابقاً، يعتبر مخاطرة حقيقية، لكن العمل الجديد ينجح في تقديم زوايا جديدة من الأصل مستفيداً من المساحة الزمنية الكبيرة التي يقدمها التلفزيون نفسه في عشر حلقات، ومع تعدد الشخصيات الجديدة والحبكات الجانبية والقصص الجديدة، يصبح الأصل باهتاً وبعيداً ولا يتعدى فكرة الضباب الغامض الذي يعزل الشخصيات فجأة من العدم، لينشر الرعب والموت.

تضارب السلسلة مع الفيلم تحديداً قد يجعل فئات من الجمهور والنقاد، الأكثر كلاسيكية، يميلون لانتقادها، لكنها مع تقدمها البطيء في الحلقات الأولى تقدم نمطاً شديد الاختلاف وكأنها تمزج بين فكرتي روايتي كينغ "ذا ميست" و"أندر ذا دوم" علماً أن الأخيرة تم تطويرها في سلسلة مشوقة تحمل الاسم نفسه لصالح شبكة "سي بي إس" العام 2013، وبهذا لا يصبح الشر المتربص بالشخصيات مجرد كائن غامض يعيش وسط الضباب فقط، بل يصبح الضباب سبباً لتجلي الشر الداخلي الذي يشكل جوهر الحياة البشرية مع إخفائه لبقية العناصر التي تشكل مجرد تشويش على تلك الحقيقة المزعجة التي لا يرغب أي إنسان في التعايش معها بصراحة.

ولهذا السبب لا يمكن الوقوع في غرام الشخصيات، وهو عامل كلاسيكي لبناء سلسلة تلفزيونية ناجحة، فجميع الشخصيات، من دون استثناء، تمتلك جوانب مظلمة في ماضيها، وتقوم بأعمال عنف مروعة في حاضرها، وتمتلك أفكاراً متطرفة بشأن المستقبل أيضاً. لكن ذلك الظلام ليس متشابهاً بل هو شديد التنوع وينقسم إلى فئتين كبيرتين تتصارعان على البقاء ضمن الضباب، إحداهما متطرفة في ليبراليتها وتضم متحررين جنسياً ومراهقاً مزدوج الميول الجنسية وأناركيين فوضويين وعائلات متحررة وديموقراطيين وملحدين نباتيين ومهاجرين متحمسين لحقوق البيئة والإنسان، والأخرى متطرفة في محافظتها ودعمها للأديان التقليدية وكارهين للأجانب والأقليات والحرية في الهوية الجندرية ومؤمنين بالنظام السياسي القائم.

الوصف السابق مألوف جداً، فهو تلخيص للصراع الثقافي الذي يحكم الصراع السياسي في الولايات المتحدة، وبدرجة أوسع في العالم الغربي، لكن السلسلة لا تصرح بذلك ولو بكلمة واحدة، بل تلتزم بتقديم الترفيه فقط وتترك مثل هذه التحليلات بعيدة المدى للمشاهد نفسه كي يكتشفها، فمثلاً تقارن السلسلة حال العام 2017 بالعام 1860 من زاوية حصول الضباب الغامض فيهما، لكنها لا تشير إلى أن العام 1860 كان عاماً شديد الاستقطاب في تاريخ الولايات المتحدة وانتهى ببداية الحرب الأهلية الأميركية تقنياً. وبهذا يصبح الضباب رمزاً سياسياً للاضطرابات السياسية وإلى دونالد ترامب نفسه، مع تراجع الحديث عن الجيش والنظام السياسي ودورهما في خلق الضباب، مقارنة بالرواية والفيلم الأصليين، حتى نهاية الموسم الأول الذي يوحي بتطوير القصة باتجاه مختلف جديد مع بقاء الشخصيات الأساسية على قيد الحياة، بعكس الفيلم.

أجمل ما في السلسلة هو جمعها للشخصيات المنتاقضة في مكان واحد مغلق، لخلق أحداث وحوارات فلسفية عميقة، تبلغ ذروتها في محور الكنيسة المحاصرة بالضباب، حيث تحتمي قائدة "الملحدين" ناتالي ريفين إثر مقتل زوجها في الضباب، وهي التي تؤمن بقوة "الأم الطبيعة" ولم تقرأ الكتاب المقدس في حياتها، لتدخل في تحد مع الأب رومانوف لإثباث أحقيتهما في قيادة الرعية نحو الخلاص، من منطلق أن ما يجري ليس "يوم القيامة" بل هو مجرد دورة الحياة الطبيعية التي يشكل فيها الموت والعنف داعماً للحياة كي تستمر ولا يجب الخوف من ذلك بل يجب تقبله والمشاركة فيه أيضاً.

والحال أن "ذا ميست" هي آخر المسلسلات التلفزيونية التي تقدمها "نيتفليكس"، كاقتباسات عن أفلام سينمائية ناجحة، وهو نمط جديد تروج له خدمة البث الرقمي الرائدة عالمياً، وبدرجة أقل شبكات أخرى، لجذب مزيد من الجمهور في سوق المشاهدة التلفزيونية المحتدم، بالاستفادة من عامل النوستالجيا وإمكانية البناء على فكرة مضمونة النجاح، طالما أنها نجحت في الأصل السينمائي أصلاً، بطرق إبداعية مثيرة للاهتمام باتت تشكل تياراً مستقلاً ضمن السلاسل التلفزيونية القصيرة "Mini Series".

وتبرز هنا أعمال مثل "بيتس موتيل" المقتبس عن فيلم ألفريد هيتشكوك الأيقوني "سايكو"، وسلسلة "هوت ويت أميركان سامر" التي تجمع أبطال الفيلم الأصلي بعد مرور عشر سنوات على أحداث الفيلم التي تدور في مخيم صيفي للمراهقين، في محاولة لتتبع مسار شخصيات يعرفها الجمهور أصلاً، وسلسلة "سكريم" المقتبسة عن سلسلة أفلام الرعب الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، وسلسلة "فارغو" التي ينتجها الأخوان كوين صاحبا الفيلم الأصلي الذي يحمل نفس الاسم والذي ترشح العام 1996 لعدة جوائز أوسكار رئيسية كما فاز بجائزة أفضل إخراج في مهرجان "كان" السينمائي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها