الإثنين 2017/06/12

آخر تحديث: 16:05 (بيروت)

"كفر دلهاب": الرعب والأسطورة.. هما العدالة

الإثنين 2017/06/12
"كفر دلهاب": الرعب والأسطورة.. هما العدالة
increase حجم الخط decrease
يفتتح العمل الدرامي المصري "كفر دلهاب" على مشهد يستدعي إلى الذاكرة استهلال عمل نجيب محفوظ "ملحمة الحرافيش": مطلع الفجر، النهار تتسلل خيوطه بين ظلمة الليل الحالكة، وأمطار غزيرة، وبكاء طفل، يقود أحد عابري السبيل لاستطلاع مصدر البكاء، فيخطو عابر السبيل تجاه قصر مهجور، يظهر ويختفي بفعل ضوء البرق، يخطو عابر السبيل حاملاً سراجاً وهاجاً، ويدلف في جرأة مدهشة على الرغم من أنفاس المشاهدين التي تبدأ تنجذب إلى المشاهدة في اهتمام، وفجأة، يظهر شبح من خلف عابر السبيل، يعرقله، ويسحبه في مشهد مرعب مألوف، وسط صرخات لا تنتهي.


تدور حبكة العمل في كفر ريفي قديم، يسمى "كفر دلهاب"، لم يحدد مؤلفه أية حقبة تاريخية تجري فيها الأحداث، لكنها بالطبع لا تمت بصلة للتاريخ الحديث، يظهر هذا من ملابس أبطال العمل، والسيوف التي تتدلى من نطاقهم، وكذلك الخيول التي يركبونها في منطقة تطابق أماكن حياة القبائل، حيث تم تصوير المسلل في واحة سيوة في الصحراء الغربية، ورغم ذلك كله لا يلتزم المؤلف باللهجة الفصحى.

يتتبع المشاهد في الحلقات الأولى أزمة مرض "هند"، بنت الثري "بهاء الدين" الذي لا يعرف سبباً لعلتها، فيجلب لها الطبيب "سعد" (يوسف الشريف) محاولاً علاجها. تتصاعد الأصوات العجيبة من مخدع هند، ويعلو صدرها ويهبط كلما اقتربت الكاميرا منها، وتلقي الرعب في قلب إحدى صديقاتها التي تود أن تطمئن عليها، حين تهب فجأة من رقادها، وتحملق فيها بنظرات مرعبة من خلفها في المرآة، قبل أن ينفتح باب حجرتها ويصفق بقوة.

يوظف المخرج أحمد نادر جلال، تقنيات سينمائية، بعضها مستوحى من السينما العالمية، تكاد تكون غريبة عن الدراما المصرية، وحديثة في أفلام السينما، منها تقنية الغرافيكس، ليعالج المشاهد المظلمة، أو خافتة الإضاءة، وكذلك تقنيات الموسيقى التصويرية المثيرة، والأصوات الهامسة، التي يستعين بها مع أجواء الظلمات، والرعد والبرق، وأصوات الرياح، ليعطي طعماً مختلفاً لصورة سينمائية، يراها المشاهد على شاشة التلفزيون للمرة الأولى في رمضان، ليحول العمل إلى دراما مشوقة، بوليسية، وأسطورية مرعبة.


هند المريضة، محور قضية المسلسل، والتي ترقد في حالة غير طبيعية، يشتبه البعض في أنها ملبوسة من الجن والعفاريت، فيما يرجح البعض الآخر أنها مريضة مرضاً نفسياً نتيجة ضغط أسرتها عليها للزواج من نجل شيخ الغفر، فيزورها الطبيب، وينصح أسرتها بألا يضغطوا عليها، وأن يحرروها من الزواج، لكن النصيحة لا تحقق العلاج المرجو، فيقرر والد هند (محمد رياض) الاستعانة بساحر الكفر، ليحاول إخراج العفريت من جسدها، وفي مشهد شديد التشويق والإثارة يخفق الساحر في إخراج الجن من جسد هند، التي يرتفع جسدها من فراشها إلى الأمام، ويهب تجاه الساحر، وينبعث صوت ذكوري أجش وخشن من حلقها، يخاطب الساحر بكلمات غير مفهومة، تنتهي بصراخ مدوٍّ، يحطم زجاج الغرفة، ويسفر عن قتل الساحر.

يتأكد الطبيب، أن ما أصاب هند، لعنة، جراء جريمة قتل وقعت في الكفر، جريمة تدفع ثمنها هند ويتورط الطبيب في البحث عن أصل وفصل مقتل الشابة ريحانة، التي تم العثور على جثمانها في مقام بالكفر.

ويبرز الممثل هادي الجيار بأداء لافت في شخصية شيخ الغفر، الذي يجسد في العمل القوة الباطشة المتسلطة على أهل الكفر، كطرف الصراع المضاد في القصة، ويظهر فيه الجيار بصورة مختلفة ونادرة لكونه لم يؤد مثل هذه الأدوار على الرغم من تاريخه في العمل السينمائي والتلفزيوني، وينجح ببراعة في نقل ملامح شكلية من الحكام الظالمين، كالعبوس، القدرة على الكذب، والمواراة والخداع، لتجسيد معاني البطش والظلم والاستبداد، وسوء استخدام السلطة والنفوذ.

إلى ذلك، يحاول الطبيب أن يربط بين الخيوط، التي تتكشف عن رمزية سياسية، تختبئ خلف الأسطورة التي يستقيها المؤلف عمرو سمير عاطف من أكثر من منبع، أحدها "ألف ليلة وليلة" بلا شك، وهي رمزية العدالة المنقوصة، في بلد ما. فمقتل ريحانة على الرغم من كونها فتاة سيئة السمعة، إلا أنه يجلب الخراب واللعنة على الكفر، فالنسوة لا يحبلن، والسيد بهاء أبو هند يعاني الأمرين في علاجها من حالتها الميؤوس منها، كما يعثر على بهائمه مذبوحة. أما شيخ الغفر، فيفاجأ ذات صباح بأن الكفر تحت الحصار، بسبب تحطم الجسر الذي يربطه بالكفور المجاورة، وحينما يحاول إرسال رسالة بالحمام الزاجل، يفاجأ بموت كل الحمام في الكفر. ويستخدم المؤلف الموروث الديني بوضوح، باستخدام اللعنات التقليدية من القرآن كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، كما تحترق غلال أهل الكفر، ويحاصرهم الجوع، والعطش، وتسري لعنة هند، ومن قبلها ريحانة في الكفر.

يبدو الفنان المصري، يوسف الشريف، محايداً في أدائه على الرغم من هول الأحداث التي يشهدها. ففي مشهد المشنقة في الحلقة العاشرة، يتقدم بثبات صوب المشنقة بعدما شهد ضده الجميع بأنه قتل ريحانة، من دون أية مشاعر أو انفعالات، بل يرتدي باستسلام كامل الغمامة السوداء، وكأنه يعرف مسبقاً بأنه سينجو. وحينما يضع الحرس المشنقة حول رقبته، ويضغط الجلاد رافعة المشنقة، لا يتدلى الطبيب في هوتها المظلمة، ولا تتحطم ترقوته، ويهتف الجمع الملتف حول المحاكمة ببراءة الطبيب.

إنها الأسطورة مرة أخرى التي استند إليها المؤلف منذ الحلقة الأولى، تتدخل هنا في متن الحكاية، لتنقذ الطبيب، يتقبل عقل المشاهد معجزة المشنقة، لأن من يصدق منذ البداية أن ثمة لعنة في الكفر، وتضربه بالقمل والدم والأفاعي والنيران، بسبب غياب العدالة، يصدق بالتأكيد أن اللعنة نفسها تتدخل كي تنقذ الأبرياء، وتضرب فقط الملعونين.

يعد شيخ الغفر بتحقيق العدل، ويرسل للقبض على نجل القاضي، ونجل الثري، لكنه يحبسهما حبساً صورياً، ويطمئنهما أنهما في مجرد مخبأ، حتى يعبروا الموجة العالية. إنها مرة أخرى العدالة الصورية، الكذوب، والظلم المستمر، لا تنتهي اللعنة إذ يظهر شبح ريحانة، لهند، وتمسك يديها، في إشارة إلى أن الانتقام سيستمر من أهل الكفر، طالما غضوا أبصارهم عن الدم، وطالما استمر الظلم، سيستمر الخراب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها