الإثنين 2017/12/04

آخر تحديث: 16:24 (بيروت)

"فايسبوك" بذكاء اصطناعي: خنق السوشال ميديا.. بالتنميط

الإثنين 2017/12/04
increase حجم الخط decrease
فايسبوك يطوّر ذكاءه الاصطناعي؟ إذاً، عليك فوراً أن تقلق على ضياع فرديتك وحريتك. وتكفي كلمات مارك زوكربرغ عن ذلك الذكاء الاصطناعي، لكشف مدى تهديده للحريّة الرقميّة! 
الأرجح أن العام 2017 لم يكن مشرقاً في تطوّر السوشال ميديا. إذ جاء فصل استخدامها من قبل قوّة كبرى (روسيا) في التلاعب بمسار الديموقراطية في بلد يفترض أنه منيع ومحصن ديموقراطياً وتقنياً، ليضيف فصلاً مؤلماً في تطوّرها. وتكشّف أنّ روسيا لم تكن وحيدة ولا رائدة في ذلك النوع من التدخل، فيما تمثّلت استجابة إدارة الرئيس دونالد ترامب حيالها في مزيد من "شبك الأيدي" بين الحكومة والشركات في الرقابة على ما يتنفسه الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

لنتذكر أن كلمات من نوع "تنسيق بين الحكومة الأميركيّة والشركات الكبرى في المعلوماتيّة" لا تعني سوى المزيد من تدخّل الأجهزة الاستخباراتيّة في الفضاء الإلكتروني الذي تدير الشركات حراكه وبرامجه وجمهوره الرقمي. لم يكتف العام 2017 بالتذكير المكثّف بالتعاون الثقيل الوطأة على الحريّة الذي كشفته وثائق الخبير الأميركي المنشق إدوارد سنودن في 2013، بل أضافت إليها ما هو أثقل وطأة. وقبل أيام قلائل، كشفت شركة "آب غارد" الأميركيّة أن "وكالة الأمن القومي" تمارس تجسّساً مباشراً على مواطني أميركا الذين يفترض أن القوانين تحميهم من ذلك، حتى لو أنها لا تحمي شعوب العالم من رقابة شاملة صار مثبتاً أن تلك الوكالة تمارسه على مدار الساعة. 

التدخّل الروسي: حرية الرأي وذكاء الآلات!
لم يكن ينقص إلا ضرب حريّة الرأي الفرديّة، وهو الذي تكفّل التدخّل الروسي بجلبه إلى جمهور الإنترنت، عبر صفقات ممعنة في التآمر والابتعاد عن الديمقراطية والحرية، وتتوالى فصولها انكشافاً، خصوصاً مع اعترافات مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين بلقاءات مع سفير روسيا في واشنطن. لماذا سدّد التدخّل الروسي ضربة مؤلمة للحرية؟ لأن جلّه جرّى عبر وسائل ديموقراطيّة! بعبارة أوضح، حدث معظم ذلك التدخّل عبر سوء استعمال منظّم للحريّة الرأي تحديداً، في الفضاء الواسع للسوشال ميديا. لم يكن اختراق الهاكرز وسرقة البيانات سوى جزء صغير من ذلك النشاط. ركّز التدخّل على استعمال مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أخبار ومعلومات محبوكة، هدفها تحريك التطرّف القومي والتشنّج العنصري وكراهية المسلمين والأجانب، بل معاداة العولمة (وهي صنع أميركي بامتياز) بذريعة أن "الخارج الأجنبي" يستفيد منها.
تمثّل ردّ فعل الإدارة الأميركيّة بتجاهل مفهوم ديموقراطي عميق، يفيد بأن إعطاء مزيد من الثقة في الشعب والأفراد، وتعميق الحريّات، يتكفل بالدفاع عن الديموقراطية عبر انخراط شعبي واسع. انحصرت الإجراءات ضد التدخّل الروسي في التوجّه الى الشركات كي تفرض مزيداً من الرقابة على جمهور الانترنت، مع دعم... الأجهزة الحكوميّة! 

يصنع ذلك مدخلاً أول في النظر إلى تصريح مارك زوكربرغ عن سعي "فايسبوك" لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي في موقعه. ويفيد أن يتكامل مع مسألة "تنميط" جمهور السوشال ميديا، وفق كلمات زوكربرغ نفسه! وفي ذلك التصريح، وبعد اعتراف مهذّب بوجود مخاوف عامة من الذكاء الاصطناعي، يقرّ زوكربرغ بأن "معظم أدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة حاضراً تعمل بأسلوب التعرّف إلى الأنماط" Pattern Recognition.

مثلاً، غارات الـ"درون" التي يفترض أنها تجري عبر توظيف الذكاء الاصطناعي المتطوّر للآلات الذكيّة لاستخراج أنماط أفراد "القاعدة" وقادتها. ويفترض أنّها متقدّمة جداً، بل تستعمل بأقصى حذر لأنها عبارة عن روبوت طائر يحمل قنبلة مميتة. ما هي التجربة فعليّاً مع تلك التقنية؟ ربما كان القارئ أكثر علماً، خصوصاً أنّه منذ انطلاقتها (وتطوّرها أيضاً) مع الحرب المفترضة على الإرهاب بعد 11/9، لم تشتهر تلك الغارات إلا بانعدام دقّتها، وأنها حصدت أرواح مدنيّين أبرياء لا علاقة لهم إلا بإرهاب أن تعيش في ظل الحرب على الإرهاب! 
صُنّفت تلك الأرواح المزهقة بأنها "خسائر جانبيّة"، ثم تضخّم أمرها، إلى حدّ أنّها استخدمت سياسيّاً في التحريض ضد أميركا في باكستان وأفغانستان. وصارت أزمة سياسيّة مستمرة بين أميركا وحليفها التاريخي الباكستاني، وحليفها الذي "حرّرته" من الإرهاب في أفغانستان. لا يجري الحديث عن غارات الـ"درون" إلا باعتبارها إحدى المآسي- المهازل في الأزمنة المعاصرة. ويقود تلك التراجيدي- كوميديا... الذكاء الاصطناعي، خصوصاً تعليم الآلات الذكيّة طرق التعرّف المؤتمت على الأنماط.

تخيّل أنّ غارات "درون" تنتقل إلى السوشال ميديا، كيف تكون حال الأفراد وحريّاتهم وخصوصيّاتهم، بل حال الديموقراطية التي حلم الجميع ذات مرّة أن التقنيات الرقمية ستكون ذراعها الأقوى ودعمها الأشد تاريخيّاً؟

من قال إن للانتحار نمط؟
في تصريحه المنشور فى "فايسبوك" في 27 تشرين ثاني /نوفمبر المنصرم، يبرّر زوكربرغ استخدام تقنية التعرّف إلى الأنماط، بسببين يصعب مقاومة نقدهما. يتمثّل أوّلهما في الانتحار. ويتوسّع زوكربرغ في نشر الأماني عن قدرة أدوات الذكاء الاصطناعي على التعرّف إلى محتوّى يتصل بالانتحار. وبطريقة غير مباشرة، يقرّ زوكربرغ بقصور الذكاء الاصطناعي عن التعرّف فعليّاً على نمط المحتوى المتصل بالانتحار، مرجعاً ذلك الى عدم قدرة ذلك الذكاء على التعرّف إلى التشابكات الكثيرة في اللغة.

وقبل كل نقاش، من قال لزوكربرغ أن لانتحار البشر نمطاً؟ من أين له الإثبات أن المنتحر في اليابان ومصر وكينيا ولبنان، يتّبع "النمط" المفترض للمنتحر في أميركا وكندا وانكلترا وفرنسا، مع التشديد أن لا نمط للانتحار في البلدان كلّها. تستأهل تلك النقطة نقاشاً واسعاً، بل مقالات برمّتها. 

ويملك الاعتراف بالقصور مقداراً كبيراً من الواقعيّة ليس مستغرباً من متضلّع بالتقنية كزوكربرغ. ومن الشائع تماماً أن التعرّف على المعنى الذي تحمله الكلمات والنصوص مازال تحدّياً مستعصيّاً أمام الذكاء الاصطناعي، منذ رسم العالم البريطاني آلان تورينغ (في خمسينات القرن 20) اختباره الشهير الذي يرسم نضوج الذكاء الاصطناعي بقدرته على الحوار مع البشر كأنه واحد منهم.

ومع ذلك الاقرار، يصعب عدم التوجّس من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي على موقع للتواصل الاجتماعي، خصوصاً مع الإقرار أيضاً بأن ذلك الذكاء يعمل عبر تنميط الأفراد. ويصبح التوجّس قلقاً مبرراً إذا تذكّرنا أنّ التدخّل الروسي بالـ"سوشال ميديا" جرّى باستخدام تلك القدرات المؤتمتة في رسم أنماط للأفراد والجمهور. وتذكيراً، عمدت مجموعات روسيّة إلى رسم أنماط لشرائح من الشعب الأميركي تتعلّق بطرق الحصول على المعلومات والأخبار وطُرُق التفاعل معها والتفكير فيها.

ثم ركّز الروس على الأنماط المتصلة بالبيض في ولايات تدهورت أحوالها اقتصادياً لأسباب تتصل بنقل صناعات أميركيّة إلى الخارج (عبر العولمة)، وكذلك بسبب حلول أيدي عاملة مهاجرة تقبل أجور متدنيّة في وظائف متنوّعة في الطبقة الوسطى. وتبيّن أيضاً، وفق ما أظهرته متابعات الإعلام الأميركي، أنّ تلك الشرائح تتميّز بأن معظم أفرادها يميلون لتصديق أخبار متطرّفة وغير مألوفة (بفعل انعدام ثقتهم بالمؤسّسة السياسيّة التي أدى نهجها إلى "إفقارهم")، وهي لا تملك وقتاً كافياً للتدقيق لأنها باتت تعمل لساعات طويلة كي تفي بمتطلّبات عيشها. وركّز الروس على تلك الشرائح التي أظهرها التنميط المؤتمت للذكاء الاصطناعي. ثم كان من أمر التدخّل ما كان، وما ربما سيكون! مَن يدري؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها