الخميس 2016/06/30

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

مُحاكمات السوشال ميديا.. شرط الفيزا الأميركيّة!

الخميس 2016/06/30
مُحاكمات السوشال ميديا.. شرط الفيزا الأميركيّة!
الاقتراح سيضيف سؤالا اختياراً لطلبات الحصول على التأشيرة عن الحسابات في مواقع التواصل
increase حجم الخط decrease
في 2012، قبيل انطلاقه لقضاء عطلة في "لوس أنجلوس"، بثّ شاب إيرلندي إسمه، لي فان برايان، تغريدة على "تويتر" قال فيها: "أنا حرّ هذا الأسبوع، كي أنجز بعض النميمة والتحضيرات، قبل أن أذهب لتدمير أميركا"! لم تلبث كلماته أن صارت وبالاً عليه. 


وحينها، التقط موظّفون حكوميّون أميركيّون تغريدته المتفاخرة عبر السوشال ميديا. وقارنوا بياناتها مع لوائح القادمين إلى أميركا جوّاً. وكانوا بانتظار ذلك الشاب في المطار عند وصوله من إيرلندا. لم تكن كلماته سوى مزاح وإيحاءات جنسيّة وذكوريّة، لكنه خضع لاستجواب دام 5 ساعات، قبل إعادته إلى بلاده. ومن المستطاع المحاججة بأن التنكيت في المطارات عن التفجيرات تعرّض صاحبها للاعتقال.

مُعرّفات السوشال ميديا= محاكمة ساحرات!
يتّجه زمن الانترنت حاضراً إلى استحضار ذهنيّة "محاكمة الساحرات" بطريقة مكشوفة، إذا تكللت مساعي "وزارة الأمن القومي الأميركيّة"US Department of Homeland Security، بوضع الحساب الشخصي على السوشال ميديا، ضمن شروط الحصول على "فيزا" لدخول "بلاد العم سام". ووفق ما تناقلت وسائل إعلام عالميّة عدّة، ومنها "بي بي سي" و"سكاي نيوز"، أُدرج ذلك الاقتراح ضمن أعمال قسم "الجمارك وحماية الحدود" في 27 حزيران2016، ما يعني ضرورة الحسم بشأنه خلال 60 يوماً. وفي حال إقراره، سيدرج ذلك البند ضمن استمارة طلب تأشيرة الدخول، تحت بند "مُعرّفات السوشال ميديا".

استطراداً، لاحظ جوزيف لورنزو هال، وهو مسؤول القسم التقني في "مركز الديموقراطية والتكنولوجيا" (أحد المراكز الأميركيّة التي تنشط في الدفاع عن الحريّات العامة والشخصيّة على الانترنت)، أن وضع بند "معرّفات السوشال ميديا تحت فئة "إختياري/غير ملزم" (Optional)، لا يخفف دلالته القاسية على الحرية. وأشار إلى أنه من الصعب تصوّر أن الناس سوف لن تضع تلك المعلومات، خشية الظن بأن لديها ما تخفيه، وتالياً حرمانها من الفيزا. وفي تصريح نقلته "بي بي سي"، أعرب هال عن اعتقاده بأن "الديموقراطية تعني وجود مساحات متحرّرة من رقابة الحكومة وعيونها المدقّقة... ونحن نعيش في زمن صارت فيه معظم الحياة الاجتماعيّة تحدث عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

سيف وحدّين ورقبة الحريّة
يشبه القرار المتوقّع بشأن "مُعرّفات السوشال ميديا" سيفاً ذا حدّين، لكن الاثنين متّجهان صوب رقبة حق الأفراد في التعبير على الانترنت، وكذلك حريّتهم في التنقل في العالم الفعلي. والأرجح أن الفزع الذي أشار إليه الخبير هال (إذا كتبت المُعرّفات تخاف، وإذا لم تكتبها تخاف أيضاً)، يأتي من ذهنيّة "محاكمة الساحرات". لنفكر في الأمر. أولاً، يعطي القرار سلطة مطلقة لمن سيقرأ صفحاتك في السوشال ميديا، بالخروج بالاستنتاج الذي يتوافق مع تفكيره. هل لك أن تفكر بعدد التباينات الثقافيّة التي تقف بين من يكتب في مصر وباكستان والهند من جهة، ومن يقرأه في واشنطن؟ ألا يبدو أن من سيقرأ تلك الصفحات سيكون أقرب إلى صورة كهنة القرون الوسطى في تتبعهم للشيطان في حركات وسكنات من يشتبهون بهم؟ (يحضر إلى الذهن فيلم "أشباح غويا، اخراج  الأميركي ميلوش فورمان، بطولة نتالي بورتمان، 2006)؟

يبدو موظف الاستخبارات في أميركا ممسكاً بأقدار تتقرّر بمجرد استنتاجاته عن تدوينة منطلقة السجايا في "فايسبوك"، وتغريدة ممازحة في "تويتر". ألا يبدو مفزعاً تذكّر أن تدوينات السوشال ميديا تمتد عبر حياة الأفراد كلها، بل أنّ أجيالاً باتت صفحات التواصل الاجتماعي هي سجل حياتها فعليّاً.

هل يتوجّب أن يكون الحذر حاضراً طوال الوقت، ليس من مجرد ما يقال، بل مما يحتمل أن تؤول كلماته من قِبَل مجهول أيضاً؟ هل سنربي الأجيال على الخوف والخشية والفزع من مجهول يحمل سلطات تقرّر حياتهم بكلمة وتخمين؟ أليس ذلك أقرب إلى الصورة الأكثر تطرفاً للأنظمة الأشد شموليّة في التاريخ؟ أين تكون حرية الرأي والتعبير؟ ماذا يحصل للحق في النقاش وتبني الآراء وتركها وتغييرها؟ ماذا يحصل لمجمل الحراك والتفاعل الفكري، إذا كان ثمة سيف خبيء مسلط، يتهدد كل شخص، عن كل كلمة، بل عن كل تأويل واحتمال لكل كلمة، طيلة حياته؟

عن زمن رائق انتهت أوهامه
لا داعي للقول بأن القرار بشأن "مُعرّفات السوشال ميديا"، سيعطي ذخيرة جديدة للأنظمة القمعيّة (إياك والظن أنها إشارة مستورة إلى الدول العربيّة. كلا: إنها إشارة مكشوفة)، لتبرير عقلية المخبر التي تتحكم فيها، بالقول أن الدول الغربية الديموقراطية تمارس ما هو أسوأ. ألم تُشبّه السوشال ميديا بأنها النظير الافتراضي للمقهى الشعبي (مع أبعاد معولمة باتساع الانترنت)، ويكون القرار الأميركي عائداً للمخبر الذي يدس إذنه في ما يقوله الناس بطلاقة وضمن علاقات الثقة بين الأصدقاء؟ لا تحتاج تلك الأنظمة إلى تبرير جديد، ولم تحتج ذلك في أزمنة ماضية. فلنعفِ الأميركي من وقاحة سلطاتنا، هذه المرّة على الأقل.

في المقابل، يصعب القول بأن القرار بشأن "مُعرّفات السوشال ميديا""، لا يزيد تعقيد النقاش عن مجمل التجربة الإنسانيّة في امتحان الحريّة أولاً، والديموقراطية تالياً. وبديهي أن الأمر يصبح أشد تعقيداً عندما يضاف إليه ما شهدته العقود الأخيرة من صعود متناقض جمع العولمة مع الهويّات الضيّقة، والتفاعل الشديد القوّة بين الحضارات والثقافات، مع صراعات وتوتّرات بينها.

لنخفف مستوى النقاش قليلاً. لنعد إلى الشاب الإيرلندي الذي سعى إلى مغامرات جنسية بلا حدود، فلم يستطع اجتياز حدود أول مطار أميركي.

ومثلما ورد أعلاه، حدثت تلك الواقعة في العام 2012. وحينها، لم يكن الخبير الأميركي إدوارد سنودن قد كشف وثائق "وكالة الأمن القومي" التي بيّنت أن الوكالة تجسّست إلكترونيّاً على اتصالات العالم بأسره، بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي. في العام 2012، بدا زمن الانترنت صافياً. لم يكن يعكّره سوى أحساسيس غائمة عن رقابة واسعة على الانترنت (بديهي القول بأن معظم تلك التوجّسات كانت تجاه حكومات قمعيّة وشموليّة كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية ومعظم الدول العربيّة)، إضافة إلى مخاوف معلنة من هجمات الهاكرز وضربات الفيروسات الإلكترونيّة.

في الزمن الرائق لما قبل كشوفات سنودن عن تجسّس الحكومة الأميركيّة (مع حكومات غربيّة وديموقراطية اخرى، خصوصاً بريطانيا و... ألمانيا)، كان الخطاب الأميركي الرسمي يلوك كلمات زاهية وعالية النبرة عن حرية الانترنت وحيادها.

من المستطاع ضرب مثل على ذلك بالخطاب الذي ألقته وزيرة خارجية أميركا، هيلاري كلينتون، في العام 2010. إذ أعلنت كلينتون، التي باتت تتقدّم السباق الرئاسي الأميركي حاضراً، أنّ حريّة الإنترنت هدف رئيسي في السياسة الخارجيّة لأميركا. وأشارت إلى تمويل  وزارة الخارجيّة ودعمها مجموعة من البرامج العالميّة عن حريّة الإنترنت، ومثابرتها على محاربة حجب الإنترنت، وتعزيزها لانتشار التشفير، ودعمها تقنيّات إخفاء الهويّات على الويب، تعزيزاً لخصوصيّات الأفراد وحريّاتهم. وبنَفَسٍ تحرري قوي، أوضحت كلينتون أن تلك الأشياء كلها تهدف إلى "تمكين كل طفل يولد في أي مكان في العالم، من الوصول إلى الإنترنت العالميّة بوصفها منصّة مفتوحة تتيح حرية الإبداع والتعلّم والتنظيم والتعبير عن الذات، من دون حجب ولا تدخّل غير مناسب".

غني عن القول أن ذلك الخطاب العطري نُسِفَ تماماً عندما تبيّن، ويا للغرابة، أن الولايات المتّحدة وغيرها من الحكومات الديموقراطيّة، مارست رقابة على الإنترنت من النوع نفسه الذي تنتقد ممارسته في البلدان الأكثر قمعيّة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها