الثلاثاء 2016/05/31

آخر تحديث: 17:06 (بيروت)

عن جنى التي ذكّرتني بجدوى الصحافة

الثلاثاء 2016/05/31
increase حجم الخط decrease
في حكايات الحرب السورية، يذكر البعض كلمات أخيرة لطفل قتل في قصف جوي، قال فيها: "سأخبر الله كل شيء". واليوم، بانجليزية مرتبة وكلمات واضحة، تنظر الطفلة الفلسطينية، جنى جهاد، إلى الكاميرا وتخبرنا أنها ستحكي للجميع عن كل شيء. يعلو صوتها حتى يبح، ترتفع عيناها للجندي الذي تطاول خوذته شمس أيار وتقول مجدداً: "بدأت العمل عندما رأيت أن الكثير يحصل، دون صحافيين، دون تغطية هذه الأحداث".

جنى هي المراسلة الحربية الأصغر في العالم، لا يتجاوز عمرها الـ10 سنوات، تصنع لكل إصابة تاريخها الخاص، حتى لو كان يوم المرأة العالمي. تبحث عن الكلمات، تعينها كاميرا تحملها براحة يمينها. ونحن نصدق الأطفال، نسمع قصصهم، ونختبر خيالهم، أما جنى فتترك كل هذا اللعب لفتيات حفلات الشاي الوردية في أجزاء بعيدة من العالم ذاته، لتلعب بالعربية الفصحى متجنبة قراءة التقرير المكتوب، وبمسافات صمت قصيرة، تختم: "جنى جهاد، من أمام المسجد الاقصى، القدس".

تريد أن تخبر الجميع عما يحصل هناك. في قرية النبي صالح في رام الله في الضفة الغربية، مسقط رأسها، وفي القدس وبقية المناطق الفلسطينية. تنجح في الخروج من عباءة الرمزيات والاستهلاك العاطفي للقضية الفلسطينية، كما تجتاز الهدف التقليدي الضيق بإرسال رسالة من أطفال الأراضي المحتلة إلى باقي أطفال العالم، بمخاطبتها الجميع من دون استثناء، وبحرفية عالية.

قبل يومين، تابع أكثر من ستة ملايين مستخدم في "فايسبوك" التقرير المصغّر الذي نشرته عنها خدمة "AJ+" التابعة لقناة "الجزيرة" الإخبارية، بعدما نالت اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية منذ بداية العام الحالي.

الاشتباكات مع الجيش الاسرائيلي، الاعتقالات التعسفية، ومؤتمرات المقاطعة، للأسف تحولت التفاصيل التراجيدية للقضية الفلسطينية إلى روتين يومي في العمل الصحافي. في استهلاكنا اللانهائي لأخبار فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، نظن أن الأخبار لن تنتهي، وهي لا تنتهي فعلاً، لكن تتكرر، تذوب، تقولب.. يجيب الصحافي عن الأسئلة الخمس الأساسية في كتابة الخبر، ماذا، أين، متى، من، وكيف. ساهياً عن السؤال الأساسي، لماذا؟

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، التقيت لأول مرة بصحافيين فلسطينيين "من الداخل". على طاولة عشاء مطعم وجبات سريعة في واشنطن، تحدثت صديقاتي عن تحديات صناعة تقرير "جنازة الشهيد"، عن انتهازية بعض الصحافيين الفلسطينيين في اقتناص مقابلة مهشمة مع أم الشهيد.

"ماذا تشعرين كأم الشهيد؟" السؤال الأسوأ. في إحدى المرات تأخر أحد الصحافيين عن جنازة شهيد. بكل صفاقة، طلب من أهل الشهيد إعادة الدفن، إعادة المشهد أقصد. لكن لا يحق له أبداً أن يتأخر عن جنازة الشهيد. تركض جنى أمام النعش المحمول، خلف المقاعد الفارغة، أمام الآليات المدرعة، وإلى جانب نقاط التفتيش الكثيرة. تعلمت كيف تمشي في تشييع الشهيد، دائماً يهرولون، عليك أن تسبقهم، لا أن تأتي متأخراً.

كنت في الخامسة عشرة عندما سئلت ماذا أريد أن أكون. أجبت: صحافية، لأني أريد أن أكتب عن فلسطين، عن حق العودة والأرض المسروقة. مأخوذة برواية "الطريق إلى بئر السبع" لإيثيل مانين، ومسلسل التغريبة الفلسطينية بشارته الباكية، وجه الجد المنهك، التيه الطويل بين أشجار الزيتون الجافة.

مخيمي، جنوب دمشق، صار لأول مرة مخيماً من خيم بيضاء. الشوارع المعبدة تبصق الطين من مجاري الصرف الصحية المكشوفة، مرة ثانية. "أن أكون صحافية لأجل فلسطين"، أجبت. "أشعر بفلسطينتي من تهكم أصدقائي من لهجتي البنية".

فلسطين في مدراس وكالة الغوث في مخيم اليرموك، كانت جملاً قصيرة حول الانتفاضة في حصة اللغة الإنكليزية، ودروس التطريز الفلسطيني التي لم أتقنها أبداً. فلسطين التي عشتها في دمشق، كانت مفتعلة، متخيلة. كانت فلسطين القصة قبل أن تصير فلسطين وثيقة السفر، وتصريح الخروج من دمشق، فلسطين الدبلوماسيين في أروقة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، فلسطين التي كان علمها أمام المبنى الأزرق في الجادة الأولى بمانهاتن أقرب نقطة وصلت فيها إليها. لأعترف أخيراً أني كالجميع أمتلك "ستيرو تايب" حول الوطن. وأني لم أستطع أن أطيل جدالي مع شريكتي في الشقة "البرلينية" وهي تشاركني تفاصيل زيارتها الأخيرة لـ"إسرائيل". فلسطين البعيدة، التي يكتب عنها الجميع، ولم يكتب عنها بما يكفي بعد.

أدركت جنى أن عليها الكلام قبل عام ونصف، عندما قتل صديقها مصطفى بقنبلة غاز، وأودت رصاصة في الخاصرة بحياة عمها رشدي. تذكر هذا في المقابلات أن هذا ما دفعها لبدء عملها الصحافي، تقول: "عندما قتل صديقي مصطفى، عندما قتل عمي رشدي، أردت أن أقول إننا عندما صرنا أرقاماً في تقارير الصحافيين".

بدأت بتوثيق انتهاكات الجيش الإسرائيلي في قرية النبي صالح، لتوسع جغرافية تغطيتها من القدس إلى الخليل، ونابلس والأردن. تخلت والدتها عن الحذر، وعمها الذي شجعها في البداية لن يستطيع أن يوقف الجميلة الصغيرة. لا أدري كم تابعت جنى الإعلام الأميركي لتقرر أنها تحتاج أن تكون شخصياً في فريق عمل  Fox News و CNN بدلاً من Megyn Kelly وBelly O'reilly، كي تقدم تغطية أكثر توازناً للجمهور الأميركي. يبدأ المشوار من الضفة الغربية، إلى جامعة هارفرد الأميركية كما صرحت لـCCTV العام الماضي.

الانتفاضة الثالثة التي يجادل أصدقائي في تسميتها، ستكون هذه المرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تذكر في مقابلة مع "Vice News". تصرخ في المظاهرات، أمام نقاط التفتيش، والآليات الإسرائيلية، أن هذه أرضنا وعليكم أن ترحلوا. تصرخ والعلم الفلسطيني يعصب رأسها والكوفية الدافئة حول الرقبة.

عبر صفحتها في "فايسبوك" تتكلم جنى عن فلسطين بالانكليزية بعيداً من التقارير المتعجرفة لصحافيين أميركيين، والأخبار المكررة في التلفزيونات الممولة. قبل ستة عشر عاماً، أشعل الأطفال انتفاضة في فلسطين بحجارة تملأ كفوفهم الصغيرة، اليوم يوقد الاطفال انتفاضة جديدة ربما، بكلمات لا تملأ أفواههم فقط، بل أذان الجميع، حتى من يصمها بكلتا يديه.

على صفحتها في فايسبوك، لم تكبر جنى عن العاشرة بعد، لم تكبر عن كتابة الحقيقة الصحافية كما تراها لا كما يطلبها المحرر بعد. تلفت انتباه العالم الى أن فلسطين لم ينته الحديث عنها، وما زالت أرضاً محتلة. تذكرنا، نحن الصحافيين، لماذا أردنا في البدء أن نكون أصحاب كلمة. لماذا عندما سئلنا، ماذا نريد أن نكون، أجبنا يقيناً: أريد أن أصير صحافياً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها