السبت 2016/02/06

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

استقالة السحيمي: البلاغة فخّاً سلطوياً

السبت 2016/02/06
استقالة السحيمي: البلاغة فخّاً سلطوياً
لم يستسغ أحد في البداية أن يكون صاحب اللغة شاباً، ناهيك عن أن يكون مفتول العضلات
increase حجم الخط decrease
عوامل عديدة ساهمت بتحول النسخة المصورة لاستقالة المستشار محمد السحيمي، رئيس محكمة قناة الابتدائية، إلى جدل في مواقع التواصل الاجتماعي، كان أبرزها صياغتها اللغوية والشخص الموجهة إليه وبسببه، أي وزير العدل المستشار أحمد الزند. فيما تحولت الاستقالة إلى مصدر إعجاب وفخر الكثير من المصريين، وتناقلتها حسابات مواقع التواصل باعتبارها ""عملاً فنياً" مبنياً على إحكام لغوي وقدرة على قول الحق في وجه سلطان غاشم.


صورة المستشار محمد السحيمي كانت، على خلاف ديباجته، مفتولة العضلات وعصرية، بشكل معاكس للتصور المتخيل لصاحب هذه اللغة، حتى ظن البعض أنها صورة ملفقة وأنها لواحد من أبنائه. لم يستسغ أحد في البداية، أن يكون صاحب اللغة شاباً، ناهيك عن أن يكون مفتول العضلات. لكن سرعان ما تلاشت الغرابة، مفسحة المجال لعبارات الإعجاب باللغة وقدرتها على سبك مجازاتها، بل تحمس البعض مطالبا بوضعها في مناهج اللغة العربية، لتكون مقررة على تلاميذ مراحل التعليم الأساسية، فبخلاف أنها قطعة من "الأدب الرفيع"، فهي صالحة لتعليم النشئ معنى الوقوف في وجه ظالم. فيما لم يقف الإعجاب عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى كشف مواطن الجمال في نص استقالته.

نحن إذن أمام مفارقة غريبة بين مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي بما هي إحدى وسائل تقويض اللغة وتفكيك سلطتها، واستقالة تعتمد على ديباجة لغوية كلاسيكية تستمد جماليتها من التناص مع القرآن والكتب الشرعية. الإعجاب يبدو فعلا ناتئا، الجديد المتشطي يتحمس للمحكم القديم، وكأن "الفصاحة" ليست إلا ما تقادم.

لكن سرعان ما تبددت الحماسة، بعدما تراجع السحيمي عن استقالته، وتوجه في زيارة إلى مكتب المستشار الزند بصحبة زوجته ووالدته، ليسطّر القاضي مفتول العضلات ديباجة جديدة يعتذر فيها إلى الزند مما "تلوكه الألسنة وتضمغه الأفواه" على حد تعبيره. أما حضور والدته لما يربطها بالزند من علاقة طيبة، حتى يرضى الشيخ عن الشاب، والقاضي الجليل عن القاضي الأقل جلالاً.

الحماس الافتراضي تحول إلى غضب بعد اكتشاف أن القاضي السحيمي هو أول من حكم بالسجن على الإعلامي إسلام البحيري، وأنه ابن قاضٍ ربطته بالزند صداقة طويلة، وأن الاستقالة ليست لموقف أخلاقي، بل هو خلاف على امتيازات، إذ وقعت مشادة كلامية بينه وبين الزند، حول طلب الأول الاطلاع على ميزانية نادي القضاة، وذلك عقب انتهاء انتخابات التجديد الثلثي للنادي حينها، واستشاط الزند غضبا من طلب "السحيمي"، ورد عليه "ميزانية إيه اللي عايزها يلا؟"، فحدثت مشاجرة بين القضاة وصلت إلى التشابك بالأيدي، وتعدي عدد من المتحمسين للزند على القاضي المستقيل.

وقع المعجبون في فخ خيالاتهم عن اللغة، ربما لم ينشغلوا بقراءة ما وراء حواجز الاستعارات والمجازات والتناص، شغلتهم الصورة الكلاسيكية عن القضاء، الصور المستمدة من الدراما التلفزيونية والمسلسلات التاريخية. هذا ما جعل من صورة القاضي مفتول العضلات، عنصراً دخيلاً على الصورة المغلقة على أدبيات قديمة ولغة فارغة من أي محتوى.

في كتابها البحثي القيّم "لغة مقدسة وناس عاديون"، سعت الباحثة نيلوفر حائري، الغوص في المستويات اللغوية التي يتعامل معها الشعب المصري؛ وخلصت إلى أن الدولة المصرية في طور دخولها إلى الحداثة، اختارت اللغة العربية لغة رسمية. وذلك لاعتبارات الرغبة في مواجهة العالم بلغة هي جزء من هوية راسخة جامعة تعتمد على قداسة متأصلة في المجتمع أو يمكن تأصيلها فيه عبر الدولة بدلا من العامية التي كان المصريون يتواصلون بها في حينه.

الفصحى في الوعي الجمعي هي لغة الخطابات الرسمية، المعاملات الإجرائية الحكومية، لغة الطقوس الدينية، في مواجهة لغة الشارع بما يتضمنه ذلك من عدم جدية طرحها وعدم قدرته على مواجهة الرسمي والراسخ والأكثر جدية.

لكن هذه الثنائية اللغوية أعيد تدويرها بفضل المدونات أولا ثم مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستخدم اللغتين معا أو تنبذهما لستبدلها بالحروف اللاتينية للتعبير عن الدارج "بالفرانكو أراب"، أو هجر اللغة كلها إلى عدة إشارات "الإيموتيكون". بذك تقوضت السلطة اللغوية وتشظت إلى عدة صيغ تواصل جديدة.

الإعجاب الواسع باستقالة السحيمي، ومن قبله بالرسالة التي وجهها يسري فودة إلى ريهام سعيد، يدل جلياً على أن موقع اللغة القديمة مازال حاضرا في مكان تقويضه، وأن جمال الصياغة ما زال له تصدره المشهدي بمراكمة الألعاب البلاغية، على ما في الاستقالة والتراجع عنها وفي رسالة فودة من ركاكة واستعراض فارغ بالمفردات الغريبة.

الفصاحة لا تعني رصف الحيل البلاغية لتكون بمثابة "حاجز جمالي"، ما يحدث هو تكريس لقداسة اللغة وتكريس لتصور جامد تجاوزته، ليقع المعجبون في فخ سلطتين: قداسة اللغة، وهيبة القضاء وكلاهما تصور متخيل لا وجود له في الواقع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها