الإثنين 2016/02/15

آخر تحديث: 19:30 (بيروت)

قضية الطالب الايطالي:الداخلية المصرية نسيت أن في أوروبا صحافة!

الإثنين 2016/02/15
قضية الطالب الايطالي:الداخلية المصرية نسيت أن في أوروبا صحافة!
هذه المرة تصفية أجنبي لا يمكن تعليقها على شماعة "الحرب على الإرهاب" (أ ب)
increase حجم الخط decrease
في المؤتمر الصحافي الذي عُقد في وزارة الداخلية في الثامن من الشهر الجاري، كان وزير الداخلية المصري مجدي عبد الغفار، مرتبكاً ودفاعياً لدرجة تثير الريبة. عباراته مفككة. نبرة صوته تميل إلى الحدّة التمثيلية في الانتصار لكرامة الداخلية المجروحة. هذه المرة ضحية وزارته، طالب دكتواره إيطالي يدعى جوليو ريجيني عُثر على جثته في الخامس من شباط/فبراير، بعد اختفائه منذ 25 كانون الثاني/يناير الماضي.

يعرف عبد الغفار جيدا أن ما يقوله تنقله الوكالات والصحف العالمية، الكلمة لها حسابها في ميزانهم. "نرفض ما تردد بشأن أن الأمن متورط في الحادث.. هذا أمر مرفوض. الجهاز الأمني لم يسبق أن نُسب إليه أمر كهذا، ونتعامل مع الحادث شأنه شأن المصريين". يحاول أن يكون ديبلوماسيا، يتمهل ويبلع لعابه عدة مرات، يوجه الرسالة التي لن يصدقها عاقل في الداخل أو الخارج..

ثلاثة أيام مرت بين العثور على الجثة والمؤتمر الصحافي والأخبار المرتبطة بجهازه منذ بداية العام الجديد في قلب الاهتمام العام. فيديو الواقيات الذكرية يتحول إلى قضية أمن قومي، اعتداء على أطباء من رجال مؤسسته في أطباء في مناطق متعددة، وأخيرا القضية "العالمية" المتمثلة في مقتل طالب جامعة كامبريدج البريطانية. لا يبدو المؤتمر موجها لقضايا الداخل، وليس أكثر من مجرد ديكور مهني للقضية الأكثر حساسية، المرتبطة بالآخر الأوروبي.

يثرثر في كل ما عداها ويتحدث بحرص في ما يخصها. لا مجال لإلقاء العبارات جزافا ثم التراجع عنها معتمدا على الماكينة الإعلامية التي تعمل لصالحه. يتلبّس وجهاً مهنياً بعد المفتتح الدفاعي: "المجني عليه لديه اتصال بعدد كبير من المصريين ويتجول في أماكن كثيرة.. لا نستطيع أن نجزم أو نحدد نوع الجريمة الآن وجميع الاحتمالات مفتوحة".

يعقد الوزير المؤتمر الصحافي العاجل لا ليقدم معلومات كما جرى العرف، بل لتثبيت الأقدام على الأرض، لمواجهة التدفق المعلوماتي من صحف وقنوات ومواقع إلكترونية أميركية وإيطالية وأوروبية بوجه عام، ما زالت لديها مهنة تكاد أن تنقرض في مصر، واسمها "صحافة"، حيث الحصول على معلومة وتحليلها وفهم ملابساتها ما زال نواتها الصلبة. لا أبواق ببغائية لخطاب النظام الرسمي كأنها إعلانات مدفوعة الأجر أو هي إعلانات في قالب إعلام.

الوزير المرتبك لم يعتد على مثل هذه المواجهات. المعلومة متاحة وفي أيدي الجميع، لكن أحداً لا يجرؤ على التلويح بها أمام السيد المسؤول، بل تتسرب من شقوق مواقع التواصل الاجتماعي، أي تلك الكيانات الفوضوية التي تسبب ضجيجاً يمكن تعكيره من وقت إلى آخر بالقبض على بعض مرتاديه. أدوات السلطوية محدودة تماما أمام ما لا يمكن التعامل معه بالعنف. إذن لا مكان إلا لترداد العبارات الفارغة، والتموضع في وضع الدفاع عن المؤسسة.

لكن هذه الفداحة السياسية/الإعلامية سبقتها وتلتها مجموعة من الكوارث الإعلامية والمهنية.

هذه المرة من الصعب للقضية أن تمر. هذه المرة تصفية الأجانب لا تحمل ذريعة أكبر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تعليقها على شماعة "الحرب على الإرهاب" - العمود الفقري لشرعية النظام الحالي. ريجيني لم يكن أكثر من طالب يدرس في الجامعة الأميركية، اختفى عشرة أيام، وظهر نصف عارٍ، وفي جسده علامات تعذيب واضحة: بين فخذيه ورأسه وعنقه وعموده الفقري، الجسد مشوه تماماً، تشوهات لا تحتاج إلى عين خبير كي تدرك أنها يد الداخلية الغشيمة.

سارع المكتب الإعلامي للوزارة، بعد اكتشاف الجثة، إلى القول بأن ريجيني قتل في حادث سير. ولم يصمد البيان الأول كثيراً حتى تراجعت الوزارة، ليبدأ الضجيج الإعلامي في الصحف والشاشات: تامر أمين في شاشة "الحياة" يلمح الى أنه من الممكن أن يكون ريجيني خُطف طلباً للفدية، ومن الممكن أن يكون "مثلياً" وهو ما تسبب في مقتله.

"اليوم السابع" استعانت بخبرائها الأمنيين لوضع سيناريوهات: إما داعش أو المثلية الجنسية، وأيضا وصفته "بالشذوذ الجنسي" أو حادث سير. "الأهرام" تحدثت عن احتمالية أن يكون الشاب جاسوسا للمخابرات الإيطالية.

خمس رؤساء مزعومين للجالية المصرية في إيطاليا ظهروا من العدم على الشاشات وفي البرامج النسائية ليقولوا "عشرات الشباب المصري يموتون كل يوم في إيطاليا ولا يحدث هذا الضجيج، وإيطاليا تفعل ذلك من أجل شاب واحد".. أو كما قال أحدهم في جملة تلخص كل معاني الخسة والاستهانة بقيمة الدم: "ده واحد بس يا جماعة مش أكتر"!

الإعلام يقوم بدوره المرسوم له بدقة، فيما تقرير الطب الشرعي يذهب إلى النيابة في صمت. النيابة ترفض أن تعلن عن تفاصيله لأن "التحقيقات جارية والقضية حساسة فيجب التكتم". كل ما سبق معتاد في مصر ولا جديد فيه. لكن الاختلاف بين الخطوات الإجرائية بين مصر وإيطاليا/أوروبا والتناول الإعلامي كشف حجم العوار الذي وصل له الإعلام المصري.

رويترز تنشر تقريراً صادماً عن تفاصيل تقرير الطب الشرعي. نيويورك تايمز تجري تحقيقا استقصائيا عن الساعات الأخيرة في حياة جوليو، وتحليلات مبنية على المعلومات التي جمعتها بين يوم اختفائه وظهور جثته. صنداي تايمز تتبع تقرير رويترز وتبني عليه تحليلا مغايرا. كوريرا ديلا سييرا تنقل عن الشرطة الإيطالية –التي حصلت على اللابتوب الخاص بالقتيل- معلومات جديدة تصوب من مسار التحليلات والاستناجات التي نشرتها "نيويورك تايمز"، خاصة في ما يتعلق بالساعات الأولى لاختفائه، وبعدما انكشفت علاقته ببعض الشخصيات المعارضة في مصر واهتمامه بالنقابات المستقلة.. في النهاية كل المصادر تذهب إلى نتيجة واحدة، أن الداخلية هي المتهم الأقوى والوحيد ربما في تعذيب ريجيني ومقتله.

نحن إذن أمام عمل مهني بامتياز، شغف بالمعلومة ومن ثم توظيفها. الصحافة كما تم نسيانها في مصر. الدولة المصرية مكتوفة الأيدي أمام مهنية حقيقية متخففة من أوهام السلطة. بارانويا سياسية كما علقت مجلة "فوربس".

لا نريد أن نلقي الاتهامات على الصحافة المصرية جزافاً. فموقع "انفراد"، على سبيل المثال، نقلاً عن مصدر في الطب الشرعي فجّر معلومة شديدة الأهمية عن أن "التقرير النهائي لم يرسل معه أي تصور من أي طبيب من الطب الشرعي، على عكس المعتاد والطبيعي في كل تشريح حتى لا تتم الإشارة من قريب أو بعيد إلى التشابه بين حالات التعذيب الشرطية السابقة وبين واقعة الشاب الإيطالي، وأن التقرير الذي تم تسليمه شاملا الاصابات وأسباب الوفاة ونتائج العينات والتحاليل".

المهنية الصحافية في مصر تعاني بالأساس من إطباق ذراع سلطوية على نَفَسها، ومحاولات التسلل من أشواك البارانويا السياسية تحمل مخاطر تصل إلى التصفية الجسدية، ربما يكون هذا هو السبب الأساس في هيمنة اللامهنية على الوسط الصحافي وصعود الأراجوزات.

في كل الأحوال واجهت السلطوية مهنية كبلت أوهامها في تدارك الكارثة، والرأي العام العالمي الآن يرى وحوش الداخلية التي لا تتوانى عن تعذيب شاب للاشتباه، فكيف بـ45 ألف معتقل في سجونهم غير الإنسانية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها