السبت 2016/10/22

آخر تحديث: 14:29 (بيروت)

لهاث ومفاجآت في بيروت

السبت 2016/10/22
لهاث ومفاجآت في بيروت
increase حجم الخط decrease
    
مشبوبة هذه المدينة. كأنما في أوصالها يجري قرن فلفل حار يلهب مناطق حسك ويخدرها في آن واحد. مشبوبة بدءأ من الأسعار، مرورا بالسياسة، وليس انتهاء بالعواطف. مشبوبة، مجنونة، متأملة، متألمة، ساكنة، جموحة، غضّة، متيبسة، ضعيقة، قوية، أنيقة، رثة، بهية، متغضنة، معشوقة، وعاشقة حتى الثمالة.

حين حزمت حقائبي في اليمن، قاطعة بالرحيل اليها، رأيت رمشات الدهشة في عيون من حولي، وتغضنات الامتعاض لدى بعضهم، ووشوشات الحسد لدى البعض الآخر. "لا غرو"! فأنا راحلة الى المدينة التي يحلم بها الجميع، المطبوعة في ذاكرة ناضحة لا تبلى. 

إنها بيروت، مدينة الغلالات الزرقاء، والغيوم المطعمة بتزاوج الحضارات، المترعة بعبق المتوسط وسحره. العبق الذي جعل الغزاة - على انواعهم - يمخرون مياهه اليها، هي المتربعة على شواطئه لؤلؤة مفتوحة الاصداف، وعلى الصدف. هكذا تواردت الينا صورها وتواترت.

وأنا القادمة من الأرض المنسية تحت غبار عتيق، قررت يا بيروت أن أنفضه وألج إلى فضائك المغسول. أو هذا ما رسب في مخيلتي عنك ومخيلة الكثيرين معي، أنا المتشظية المكتنزة بمحمولات النقائض، باحثة عن التئامي مع ذاتي آتي اليك. 

حينما حططت رحالي في أرضك يا بيروت، وعقدت مرساتي في مينائك، فإذا بي أجدك محض نقائض، على صورتي وأكثر. دعيني  ايتها المدينة الفارقة أوشوشك بعض همسي، وتحمّليني قليلا أو... كثيرا، فهل تفعلين؟

لا تأتِ بيروت فرِحاً، فإنها تقبل اليك وتناولك (Menu) البهجات، فتتوه عيناك بين أصناف سويت على نار من البهرج: يملأ السرور ناظرك، وتنفتح خلايا شهيتك على مصارعها. تدهشك بيروت بالمذاقات، وتقدم لك أطباقاً متنوعة من كل شيء، سوى طبقك الأساسي الذي أتيت من أجله  والذي لن تجده بينها، أو لعلك نسيته وسط انبهارك واكتشافك للمباهج. 
تتخمك بيروت باللذائذ حد القرف. 

هل قلت قرف؟ عجيب أن تجاور البهجة القرف! 

يذكرني هذا بقصة قصيرة قرأتها منذ زمن بعيد نسيت للأسف اسم كاتبها. تتحدث القصة عن رجل عشق ابتسامة امرأة حتى الوله. وعلى أثر حادثة وقعت للمرأة، غدا وجهها منفرج الشفتين موسوما على الدوام بالابتسامة التي طالما سحرت عاشقها. فرح العاشق في البدء بأن الابتسامة المولع والمدلّه بها ستظل أمام ناظريه دوماً، ولن تغيب لحظة واحدة. لكن مع مرور الوقت لم يعد الرجل العاشق يطيق منظر تلك الابتسامة التي راح بصره يصطدم بها طوال الوقت. لقد ضاق ذرعا بجمودها على وجه معشوقته، وقرف فيما هو يقر لنفسه ويواجهها بأن ابتسامتها ليست سوى انفراجة شفتين مشوهتين.

لا تأتِ بيروت وأنت كئيب. تفاجأ بها تجلس الى جوارك على مصطبة القتامة التي تقتعدها. تثرثر معك عن جروحها. ترفع لك ثوبها عن جسدها لتريك أثار المحارق التي مرت بها. تدعك تمرر اصابعك على ظهرها لتتحسس آثار السياط. تخلع حذاءها وتريك اصابعها الملتوية واقدامها المتقرحة المليئة بالفطريات، وبما علق بها من سخام وهي تمشي في أزقة متاهة لا تنتهي. تريك كدمات رأسها المعصوب وهي تناطح الجدران للخروج الى الهواء الطلق.

وتضطر إلى سد أنفك لتتجنب نتانة الرائحة التي تفوح من ملابسها الداخلية، على الرغم من أناقة ثيابها الخارجية. وعندما تتهيآن للوقوف ولمغادرة المصطبة القاتمة، ترتطم اقدامكما بحاويات القمامة المكدسة، وتتعثران بكراكيب ومواعين قديمة صدئة منتشرة على الأرض، وينهككما الصعود فوق مطبات حديثة رُصفت توا، وأخرى يتم تجديدها دائما. وتلهثان، أنت وهي، وتواصلان المسير بعيون زائغة.

 لا تأتِ بيروت وأنت مطبق الفم. فهي مدينة الأفواه الفاغرة دهشة واستغرابا. لا تأتها إلا بعد أن تمرِّن عضلات رقبتك، ففي كل مكان منها سيدور رأسك ككرسي حلاق، فيما أنت تتابع عجائب التفاصيل اليومية! 

في بيروت فقط ستشاهد بوح عاشق لحبيبته هكذا: (أحبك يا ....)، معلقاً فوق رؤوس المارة حبلاً من البالونات المذهبة في شارع رئيسي مكتظ. وحينما تصعد "السرفيس"  للنقل الجماعي - أظنها المدينة العربية الوحيدة التي مازالت تستخدم هذه الوسيلة الخاصة والجماعية في آن، للتنقل – عليك لا تتعوّد على أن تنقز أذنيك شتائم السائق البذيئة التي يبدأها بشتم "العجقة"، مرورا بكل ما يستفز غضبه في هذه البلد، منتهيا بشتم السياسييين معرِّضا بأعضاء أمهاتهم وأخواتهم التناسلية. وعليك أنت الجالس في سيارته الخاصة – العامة ألا تتفاجأ أو تستغرب أو تنقز أو تصاب بالقرف والغثيان. فهو ليس وحده من يطلق للسانه معجم الألفاظ الزاخر ذاك، باعتيادية تسمعها مجددا حينما تدلف مؤسسة رسمية من موظف "مُكَرْفَتْ" وببدلة رسمية كاملة. وتصطك أذنك بها في سهرة رائقة مع أصدقائك النوعيين أو الذين يظنون أنفسهم هكذا! 

لا، لا تفغر فاهك حينما تسمعها من برلماني على المنصة. ولكنك بعد وقت تبتسم حتما حينما تدرك نفسك تبرطم بتلك الشتائم في موقف ما. مثلا حين تدوس براز كلب مدلل لسيدة أنيقة تتغندر في مشيتها أمامك. أو بعدما ينخفض شغفك وأنت تسمع فتاة فائقة الجمال تمضغ علكة في فم منتفخ الشفتين، فيما هي تحدث صديقتها عن عمليات التجميل العديدة التي أجرتها. أو يمنعك باديغارد يقف  بصلافة عن ركن سيارتك في المساحة التي اقتطعها مالك المحل التجاري أو الخدمي من الرصيف العام يخص بها سيارات زبائنه فقط، بعد أن اصبحت وجاهة البلطجة تحتم استخدامات ال"الباديغارد" عند هولاء الملاك وآخرين غيرهم كثر.

لكن الشتائم السابقة تبدو ضعيفة التأثير أمام ملامحك المكفهرة غضباً وأنت تضرب بكفك حنفية الماء الجافة منذ أيام في بلد يسمونه قصر المياه، بلد الأنهار والقمم الثلجية والمطر الذي لا يخلف موسمه.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها