الإثنين 2015/12/28

آخر تحديث: 16:21 (بيروت)

بائع الفريسكا.. الوهم في زجاجة

الإثنين 2015/12/28
بائع الفريسكا.. الوهم في زجاجة
increase حجم الخط decrease
يحكي هانز أندرسون، عن ملك لم يكن يهتم بشيء في الحياة قدر اهتمامه بإعجاب الناس بمظهره وملابسه، فاستغل اثنين من الخياطين غباء الملك ووعداه بأن يخيطا له ثوباً من القماش النادر الخفي الذي لا يراه إلا الأذكياء.. وفي الموعد المحدد قام الخياطان بإلباس الإمبراطور اللباس "الوهمي"، وخرج الملك يتبختر فيه أمام وزرائه عارياً تماما.. الوزراء والحاشية امتدحوا ثياب الإمبراطور الجديدة الجميلة حتى يثبتوا أنهم أذكياء لمناصبهم، وفرح الملك العاري بذلك فرحا عظيماً، وقرر الخروج في موكب أمام الشعب يستعرض فيه لباسه الجديد.

الآلاف كانوا يرون الملك بلا ملابس، لكنهم فضلوا الاحتفاظ بوظائفهم، حتى جاء أحدهم وصرخ بعبارة "الملك لا يرتدي ثيابًا!"، والتي صارت هتافاً للجماهير المتفرجة على الإمبراطور العاري. الملك عرف فعلا أنه عار، لكنه استمر في موكبه على أي حال.

مثل كثيرين، أحب قصص الأطفال، بالذات عوالم هانز كريستيان أندرسون، لما فيها من رمزية. ميزة هذه القصص أنها تحافظ لنفسها على مقدار من براءة وغرابة صورية يمكن معها التغاضي عن رمزيتها المباشرة، أو اللعب مع هذه الرمزية في مضمار واقعي.

لنقل مثلاً أن الملك العاري في القصة هو يوسف عبد الراضي أو "بائع الفريسكا" الذي تحوّل إلى قصة "أشعلت السوشيال ميديا" كما تنظمها الصحف المصرية. يوسف يرتدي ملابس لا تنتمي إلى الكود المتعارف عليه لمهنته، كبائع جائل لحلويات رخيصة. شعره ولحيته على طريقة الهبسترز، بما هي صرعة منتشرة الآن، ويرتدي ملابس أنيقة لا تناسب تواضع حاله الاقتصادي، وبالطبع سيكون مظهره لافتاً، فالمسافة بين مظهره ومهنته كبيرة بالنسبة حتى لأكثر الناس تمرداً.

المفارقة دائما فاتحة شهية الحكايات، فتحول يوسف إلى حدث في السوشيال ميديا المصري. من شاب الهيبي بائع الفريسكا، إلى يوسف عبد الراضي خريج معهد الخدمات الاجتماعية الذي قرر أن يحب ما يعمل حتى يعمل ما يحب. الشاب الذي قرر الخروج والعمل طالما أنه عمل شريف، بدلاً من الجلوس بلا عمل. قصة "تنمية بشرية" معلبة وجاهزة لزر الإطلاق كي تصير "أم الحكايات" في هذا التوقيت، ولا بد أن تنتهي نهاية سعيدة بيوسف وقد حصل على منحة من معهد بريطاني في الإسكندرية لتحضير الماجستير.

لكن لأن الواقع أكثر تعقيداً من قصص الأطفال، فالحكاية لها جوانب أخرى أكثر ظلاماً من الصورة اللامعة المهندمة، ومتابعو الحكايات الافتراضيين، يستحيل ارضاؤهم من دون أن يكونوا طرفا رئيسيا في الحبكة. خرجت استنتاجات على شاكلة معلومات أن "يوسف عبد الراضي" يعمل مخبراً للأمن الوطني، وإلا فكيف يدفع 2000 جنيه في ملابس لمهنة لن تدر عليه 30 جنيها يوميا. ثم ظهر فيديو قديم من برنامج "صاحبة السعادة" وفيه يوسف بائع "فواكه البحر"، فحللت السوشيال ميديا الواقعة بالقول: انكشفت لعبتك يا يوسف، انت تسعى للشهرة، اسمك يكون على كل لسان فتتحسن ظروفك.

الجدل يكبر، ويتجاوز مفارقة الحكاية إلى تحليلات اجتماعية وسياسية حول ما إذا كان يوسف ضحية أم مجرماً. هل استثمر وغامر بطرح نفسه بهذه الصورة لمعرفته بأن المنظومة الرأسمالية تحتفي بتسويق الصور؟ ذلك أن في المجتمعات التي تسود فيها ظروف إنتاج شبيهة لما نحن فيه، فكل الحياة تعرض نفسها كتراكم هائل للمشاهد. كل شيء يحيا قد تحول مباشرة إلى تمثيل.

يوسف تحول إلى نجم ومن ثم إلى نجم مثير للجدل في أيام قليلة، وأطلق فيديو يشرح فيه لماذا يبيع المالح والحلو، ولماذا اشتهر ببائع الحلو وفي البرنامج بائع مالح، وبلمسة إنسانية قال أنه شغل العائلة، وأن حياته "خط أحمر" لا يحق لأحد تجاوزه.

صار يوسف مثل نجوم برامج الواقع الأميركيين، شهرة مفاجئة وتقمص النجومية بتفاصيلها، وتصريحات هنا وانفرادات هناك، حتى يمل الناس الحكاية ويتجاهلونها، فيبدأ هؤلاء النجوم بإتيان أي فعل مهما كان شاذاً فقط ليصيروا في الأضواء.

الفكرة في يوسف أنه لا يحتاج أن يظهر عارياً أمام قصور نجوم هوليوود، أو أن يسب دونالد ترامب لتنقل الصحف كلاما عن لسانه، يحتاج يوسف إلى ملابس وشعر ولحية هيبية، ثم ينقض على أول فرصة تأتيه لتحسين ظرفه. هو صنع المفارقة التي يستطيع أن يبني بها فرصة جاءته وصار شغل الناس الشاغل.

سيصيح أهل السوشيال ميديا في يوسف أنه "عريان" لكنه سيمضي في موكبه الاستعراضي إلى نهايته، موكبه الممسوك بأكمله داخل نمط الإنتاج الحالي، بقدرته على تزييف المجتمع الواقعي.

في كل أشكاله الخاصة، كمعلومات أو كدعاية، كإعلان أو استهلاك لترفيه مباشر، يوسف الآن نجم فعلاً، لكنه ضحية النموذج الحالي للحياة الخاضعة للهيمنة اجتماعيا. إنه التأكيد كامل القدرة على الخيار الذي اتخذ بالفعل في ما يتعلق بالإنتاج ونمط الاستهلاك الملازم له.

وحتى لا تتمركس حكاية يوسف وتأخذ أكبر من حيزها، الشاب عرف كيف يشفّر المنظومة، ويستغلها لتحقيق حياة أفضل. أما النقاش كله، فلا يزيد عن "الحِكَم المستفادة" التي لا يتذكرها أحد، وتبقى الحكاية. إنه الوهم في زجاجة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها