الأربعاء 2017/06/07

آخر تحديث: 19:06 (بيروت)

عن عيسى الخضر و"حروب الجوائز"

الأربعاء 2017/06/07
عن عيسى الخضر و"حروب الجوائز"
كان لسجن عيسى الخضر وقعُ وجوديُ مرّ لا يمكن الشفاء منه إلا بخوض تجربة الكتابة
increase حجم الخط decrease
أثار فوز الكاتب الصحافي الشاب، عيسى الخضر، بجائزة مؤسسة سمير قصير عن فئة مقال الرأي، سجالات ذات دلالة في الشبكات الاجتماعية. فعيسى، ابن ريف حلب، نشأ في عشوائية الجزماتي بفقرها وتهميشها، وتحمّس للثورة عند قيامها ورأى في السلاح درباً للخلاص فشارك الكثير من أبناء حيّه حمل السلاح والتمرد على نظام الأسد. ثم اكتشف، كالكثير من رفاق دربه فخّ "داعش"، لكنّ ذلك كان بعد فوات الأوان على ما يبدو، لأنه وقع فيه وأمضى فترةّ طويلةّ في سجون "داعش"، تمدّد خلالها سؤال "متى تريدون قتلي؟" في أعصابه بإيقاعٍ مريع تعكسه المقالة التي فاز بفضلها.


كان لسجنه، كما يبدو في شهادته، وقعٌ وجوديُ مُرّ، لا يمكن الشفاء منه، ولو جزئياً، إلا بخوض تجربة الكتابة، هذه التجربة الجديدة التي جعلته يكتشف في نفسه، بمساعدة بعض المهتمّين، موهبةً خلّاقة تكللت بتلك الجائزة.

أثار هذا الانتصار الصغير فرحةً كبيرةً، من قبل طيف واسع من النخب السورية، وهنا لا تكتفي الجائزة بتكريمه وإنما تقوم بتكريم مسار الثورة السورية بمجملها. أي أنها تكرّم في عيسى، انتماءه لفئات لطالما همّشتها نظام الأسد. فئاتٌ اختلط دمها بتلك الأرض اليباب التي حاول النظام وأد الثورة فيها، فكانت الرمق الوحيد الممكن لاستمرار هذه الشتلة. فئاتٌ تعبّر، عبر موهبة عيسى، عن جوهر الثورة النبيل، وعن جدارتها وصوابية دعمهم لنضالها باعتبارها الكتلة التاريخية الوحيدة القادرة على انتشال سوريا من هوّتها. كما ترافق فرح بعضهم مع خوف على "ابن البلد" من التدجين، والذي قد يذيب معدنه الأصيل بهذا النوع من الجوائز.

في المقابل، أثار ذلك الفوز انزعاج طيفٍ آخر من النخب. وقد لا ينكر هذا الطيف على عيسى موهبته في الكتابة ولا مرارة تجربة سجنه في "داعش"، وقد يتعاطف كثيراً مع آلام الفئات التي يمثّلها، لكنّه وبعد سلسلة الخيبات التي رافقت مشوار الثورة، والتي كانت شعبوية النخب أحد أسبابها، أراد التعلّم من دروس التاريخ، فحاول في مواقفه الصمود أمام جبروت التاريخ الذي لطالما أذلّه في السنوات الماضية.

إنهم لا يمكن أن يقبلوا تكريم عيسى نظراً للكثير من الشوائب التي تعكّر صفو مساره. فكيف يمكن تكريم من قام بالدفاع عن الدعوة إلى الاغتصاب، وتبرير واقع الانتهاكات والإعدامات الميدانية التي طاولت القاصرين، فقط لأن من اقترفها يُعادي الأسد؟ باختصار، كيف يمكن تكريم تلك البنية التي أنتجته والتي اختزلت الحرّية في لعن الأسد؟

ورغم أن عيسى كان من وقع في فخّ "داعش" ودفع ضريبته، إلا أنهم يثبتون بموقفهم هذا أنهم قرأوا شهادته بإمعان، ولم يكتفوا بالتأثّر العاطفي بكلماتها، بل حاولوا فهم أسبابها ومقدّماتها وباتت لهم في سعيهم مناراً. يسعى هذا الطيف إلى النقاء والاتساق الفكري، فيمضي براديكاليته إلى أقصاها ولا يقبل أي حلٍ تصالحي. لا يقنعهم القول بأن الجائزة تكرّم المقالة لا كاتبها. إنه التفاف تقني يحاول أن يسلب فكرة الجائزة كل مضامينها الاجتماعية.

يبدو هذا الصراع وكأنه أحدث معارك الحرب المزمنة بين جناحي نادي النخبة السورية، السياسوي والثقافوي. حرب لا يمكنها إلا أن تكون وجودية في "المراحل الانتقالية"، ولا يمكن إلا أن تهدئ من حدّتها لسوريا حرّة ومستقرّة، تحذف عنهم "واو" المبالغة وتصالح في ما بينهم ولو نظرياً. حرب يؤكد حضورها الطاغي في صفحات "فايسبوك"، وغيابها عن أي منصّة قادرة على احتواء الحوار، مدى "مجّانيتها"، أو على الأقل مدى انفصالها عن الواقع.

أن تنتمي لنادي النخبة السورية يعني أن تشارك في هذه الحرب. يغريني في بعض الأحيان هذا النادي، فأقرّر استلال سيفي. لا يعني ذلك سوى الإجابة على سؤال "فايسبوك" عمّ أفكر فيه وتسجيل مواقف أنتمي من خلالها إلى أحد جناحي هذا النادي. لكن، أن تعبّر عن موقف، يعني أن تجيب على سؤال بسيط ودقيق "ما الذي يجب أن نفعله إزاء الحدث الفلاني الآن هنا؟". أصطدم في كلّ مرّة بتعقيدات الواقع السوري وعجزي عن الفعل، فأرفض أن أعبّر عن موقف لن يشبه في خوائه ومجّانيته سوى بيانات الجامعة العربية. أكتفي إذاً بتدوين بعض الملاحظات أحاول من خلالها أن أثبت "نباهتي" و"عمق فهمي" للحدث، من دون أن أسجّل أي موقف يذكر.

فقدت الرؤيتان المتصارعتان، منذ "انهيار الطابع الوطني للصراع"، فرصهما في الانتماء إلى الحدث السوري، فعاودتا الانتماء إلى زمنهما الخاص المنفصم كلياً عن الزمن، وباتتا تنتميان إلى سؤال الضمير لا الواقع. يحاول الطيف الثقافوي أن يخترع حدثه الخاص في إطار عملية من الجلد الذاتي المغلّفة بادّعاء ضرورة النقد الذاتي، فينتمي الطيف السياسوي إلى هذا الحدث بامتنان ويجد فيه واحدة من أفضل الفرص للتغطية على كسله وهشاشته في مواجهة سؤال الواقع.

حذفت منذ زمن طويل أغلب صفحات الأخبار من صفحتي في "فايسبوك"، لم أعد أمتلك من الطاقة ما يسمح لي بالانتماء إلى سوريا الواقعية التي لا تزيدني إلا قهراً وعجزاً وغياباً. أحاول بين الفينة والأخرى، الانتماء إلى سوريا المخترعة في "فايسبوك"، فترمقني سوريا الواقعية بغضب. أحاول أن أنتمي إلى مهجري السخيّ، لكنّها تعاود تلك النظرة. لا أجد بديلاً عن استثمار سخاء هذا المهجر وانتمائي السوري، لاستبدالهما بالانتماء إلى العالم ككل. لا ترسم سوريا الواقعية على وجهها أي نظرة. فيحرقني السؤال: ترى هل هي راضية عن معادلتي الجديدة أم أنها فقدت فيّ كل أمل؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب