الثلاثاء 2014/06/10

آخر تحديث: 17:11 (بيروت)

أغاني المونديال: الديني مقلوباً باستباحة النشوة

الثلاثاء 2014/06/10
أغاني المونديال: الديني مقلوباً باستباحة النشوة
نحن واحد: كلوديا ليييت وبيتبول وجينفر لوبيز
increase حجم الخط decrease
ليس صخب الملاعب، بصرخاته الفردية والجماعية، هو ما يصنع الانقلاب (بمعنى المعاكسة)، في موسيقى كرة القدم، على الإنشاد الديني بجلاله ورصانة وامتدادته المهيبة. ليس صخب الجمهور المستغرق في الإنشاده (إلى حدّ الغياب والاستلاب)، خلف أداء أيقوناته الكروية، هو ما يجعل "أصوات" كرة القدم تضجّ بتشابهها مع رقص القبائل البدائية أمام أوثانها الأرضية المعبودة. ليس ذلك، بل الأرجح إنها الموسيقى، التي صارت جزءاً من طقوس كرة القدم (المونديال هو تعبير مكثف عنها)، ورافقت تحوّلاتها من وريث حديث لمصارعي روما إلى ديانة أرضية مكتظة بالشهوات.


بعد سطور، نعود إلى أداء ريكي مارتن، حين كان رمزاً لصعود ثقافة الجسد الذكوري المثلي، في أغنية المونديال "كأس الحياة" (1998). لكن يمكن القول بأنه الأكثف تعبيراً عن موسيقى الكرة الحديثة. ليس غريباً أن موقع "بيلبورد" billboard الشهير في تصنيف الموسيقى، يضع أغنية مارتن ضمن الأغاني العشر الأبرز في تاريخ المونديال. بل إن موقعين مشابهين، هما "لاتينوبوست" latinopost و"باز فيد" buzzfeed، جعلاها ضمن الأغاني الخمس المخصّصة للمونديال. تصلح موسيقى المونديال وأناشيده مؤشّراً على تحوّل الكرة القدم، من الترفيه المبذول للجماهير في الملعب، على غرار مُسايفي روما التي تروي شهوة الدم عبر الأجساد المتقاتلة- المقتولة، إلى ديانة معاصرة تسترد من الديانات الوثنية القديمة طقوس الشهوات الجماعية المتكثفة في موسيقى استيلاء الوثن على الجسد المتعبّد.


سيطرت روح الاحتفاء بالعالم الناجي من حربين متواليتين والمنغمس في حرب باردة، على الأغنية التي رافقت المونديال في العام 1962. كان الغناء يختمر بالتمرد على الحرب الباردة وقواها، عبر أغاني البيتلز للشباب في العالم المنقسم. حملت الكلمات احتفاءً بما يجمع: الروك أند رول في انطلاقته الأولى. بمعانٍ كثيرة، كانت كرة القدم لا تزال متواضعة، وفي يد الجمهور الحاضر في الملعب، حتى عندما تجتمع الفرق في مونديال التشيلي، كي تحاول رمزياً التغلّب على انقسام الحرب الباردة. غنّت فرقة الرامبلز "لنهزّ العالم"، مع ملاحظة أن كلمة "روك" تعني هز أيضاً. "في العام 1962/ إنه احتفال عالمي/ برياضة الكرة... واحتفاء برقصنا للروك أند رول". كذلك لم يغب عن الكلمات معنى اقتحام المتعة وتعميمها عبر الرياضة، مع امتزاجها بفكرة الحرب الرمزية بين الدول: "من كل قلوبنا/ نغزو المتعة/ نشكر من أوصلنا إلى هنا/ كي نضع القتال/ في الميدان". حينها، كان جمهور تلفزة للمونديال قليلاً، ومضبوطاً بأقنية الدول بدرجات متفاوتة، لكنه كان جمهوراً متلقيّاً كليّاً. وفي هذا المعنى، اقتصرت رمزية صراع الأمم على الملعب.


حاضراً، صارت اللعبة معكوسة تماماً. صار مَن في الملعب يؤدي كي يُشاهد عبر التلفزة لجمهور عالمي. بمعنى أن علم الدولة لم يعد متطابقاً مع "فانلة" الرياضة. هناك جمهور عالمي للمنتخب متداخل مع الجمهور العالمي للأندية (برشلونة، ريال مدريد، تشيلسي، مانشستر يونايتد)، لكنه دوماً على الشاشات الرقمية والمتلفزة والخليوية وغيرها. في المعنى رمزية الجنس، حدث تحوّل ضخم. انتقل الجنس من حميمية ستينات القرن العشرين، إلى انتشاره عبر الوسائل المتلفزة، وعبر تسليع جسد المرأة. حدثت نقلة ضخمة في المتعة الجنسية المشاعة عبر المتلقي- الناظر عند ختام القرن العشرين، وعبّر عنه صعود جسد السوبر موديل محمولاً في حضور سيندي كروفورد وكلوديا شيفر وناعومي كامبل. مع انكشاف الحميم عبر جسد معولم تلفزيونيّاً، تمركزت الشهوة في النظر إلى الإثارة بوصفها أعضاء وأجزاء، تتفاعل مع الرداء. دخل الجسد إلى الغناء أيضاً. صارت المتعة الجنسية مشاعاً غير مكبوت ومحطّم للكبت، لكنها أيضاً فقدت اتصالها بالمعنى الانساني للجنس الحميم. ثمة ابتذال للشهوة التي تتغذى في كرة القدم من الأجساد الذكورية في الملاعب.





حدث ذلك تدريجياً. تجدر العودة إلى ريكي مارتن. بجسده الرشيق، أعلن أيضاً تفوق النموذج الجسدي للاعب الكرة الحديث، على الموروث الهرقلي للجسد الرجولي. ومع رقصه، كانت المتعة تتنتشر بين جمهور بصري واسع. في مونديال 1998، تكرّس التلفزيون أداة لجنس بصري (لنقل نظّاري) ويختزل الجنس في الأعضاء وبصرياتها. هناك تحطيم بصري معولم للتابو الاخلاقي، لكنه لا يقدم بديلاً سوى ابتذال الجنس واخراجه من الإنساني. في الأغنية، هناك شيء ممشابه لهذا التحطّم: لا ذكر للرياضة ولا الكرة، بل إنها تُختزل في الكأس، تُختزل في السلعة، في الإعلان عن التفوق والإشباع عبر هزيمة الآخر أيضاً، بالتناقض مع نبرة الشمول.


"إنها كأس الحياة/ إما أن تفعل (النصر) أو أن تموت/ إنها الآن وهنا/ أضئ الأنوار" (نلاحظ "أضئ الأنوار"، فلا رياضة إلا بالتفزة، والملاعب استديو). وتكمل الأغنية: "هل حقاً ترغب في ذلك"، تتكرر هذه اللازمة التي تحمل إيحاءً جنسيّاً مكشوفاً. تكمل عبر كلمات متلاعبة على الجنس: "عندما تحس بالحرارة/ يكون العالم تحت قدمك/ لن يمنعك أحد إذا رغبت في ذلك حقاً/ إسرق مصيرك من يد القدر... سنحتفل الليلة/ بكأس الحياة".  
في مونديال 2002، حدث الانتقال إلى القارة الأقدم في زمن الحضارة، وهي أيضاً الأكثر احتواءً للبشر عددياً، ما أعطى صورة رمزيّة عن توسّع أسطوري للكرة. ربما لا مبالغة في القول بأن المونديال الأول للقرن 21، كان بداية انتقاله من ترفيه معولم إلى ديانة أرضية واسعة.


رافق النشيد أغنيتين: "بوم...بوم" لأناستازيا، و"أهلاً بك في كوريا واليابان" للثلاثي آليسون ولابسن وكابماير. تعني كلمة "بوم" بالانكليزية الازدهار، لكن لها ظلالاً جنسية أيضاً. وسارت أغنية أناستازيا بكلمات معجونة بإيحاء الجنس: "إذا غادرتك/ ستلحق بي/ إلى مكان خاص بالهدوء/ هناك يتدفق نهر/ تكون الحقول ذهبيّة/ تعال/ تعال". وتكمل: "بوم، بوم/ لنهزّك/بوم، بوم/ لا تتوقف/ بوم، بوم/ ارتفع عالياً... أنا هنا لأهزّك".


 ومع تحوّل المونديال طقساً عالميّاً لديانة شهوانية أرضية، قدّمت صحيفة "غارديان" البريطانية تحليلاً واسعاً لأغنية مونديال البرازيل، انطلاقاً من تفكير نقدي يستند إلى "مدرسة فرانكفورت" الفلسفية المعروفة.


وتسير كلمات الأغنية في منحى لتكريس تلك الهوية لكرة القدم. تحمل عنواناً جامعاً "نحن واحد"، وتؤديها جينفر لوبيز وكلوديا لييت مع المغني بيتبول. تروّج الأغنية للتوحّد، محاولة لإخفاء التناقضات بين الهويات التي تتبنى وجودها أيضاً: "إرفع أعلامك في السماء/ لوّح بها جنباً إلى جنب/ أظهر للعالم من أين أنت/ أظهر للعالم أننا واحد". يجدر الاستدراك بأن عالم ما بعد الحداثة حاضر، لا يعتبر التفرّد في الهوية متناقضاً مع وجود هوية لها طابع جامع، سواء الدين أو الرياضة، بمعنى قبول التعدد في الهوية، وتخطي التصنيف الصارم بأصوله الحداثية الديكارتية.


ويظهر المعنى نفسه في كلمات: "الليلة نراقب العالم يتوحد/ من أجل القتال... جانبان ومعركة وملايين العيون". ومن وجهة تحليل نفسي، يتوازى القتال، خصوصاً بين الذكور، مع معنى التنافس الجنسي، وتكون النشوة هي المعادل الرمزي للانتصار. ويتشارك الجمهور في النشوة المنتشرة، عبر "جنس" ينصبّ على العيون المراقبة، إلى مجتمعات ربما تتكرّس فيها هوية الفرد- المُشاهِد.
increase حجم الخط decrease