السبت 2015/04/11

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

عيد البوسطة

السبت 2015/04/11
عيد البوسطة
كانت الحرب فداحتنا المميتة، ولم تبدأ يوم بوسطة عين الرمانة
increase حجم الخط decrease
بعد مرور أربعة عقود على بداية الحرب الاهلية اللبنانية (13 نيسان 1975)، وربع قرن على انتهائها (1990)، لا يزال السؤال نفسه: هل انتهت الحرب؟ وكيف نؤرخ لها؟ هل "علمنا وذقنا"(*) من حرب بوسطة عين الرمانة؟

أربعة عقود على بداية الحرب، ذكرى بعيدة لكنها قريبة جداً وشديدة الوطأة، انتهت لكنها استمرت في لغتنا وسلوكنا ومنازعاتنا السياسية ومتاريس منابرنا الاعلامية. قلنا وغنينا "تنذكر ما تنعاد"، لكن، في الواقع، تكررت الحرب مرات مدة، رفعنا شعار "كي لا ننسى" لكن النسيان وعدمه لم يكونا أكثر من لعبة انتقائية محكومة بالتوظيف السياسي، وحتى شعار "الغفران" لم يكن إلا خطاباً من خطب الهيمنة على السلطة، وليس نتيجة احساس بالذنب وتأنيب الضمير.

أربعة عقود على بداية الحرب، إذا فنّدنا سنواتها وأيامها، سنخجل من زمن الأجساد المسحولة والذبح على الهوية، إذا استذكرنا السبت الأسود وحرب الجبل وصبرا وشاتيلا و"حرب السنتين"... سنجد أنفسنا أشد وحشية من الدواعش. غلاة السلاح في لبنان كانوا يقتلون باسم "القضية" والدواعش يقتلون باسم "الدين"، والنتيجة بلا ريب واحدة. حبذا لو كان توفر اليوتيوب في زمن الحرب اللبنانية لظهّر توحش الفئات المتحاربة التي تزعم أنها ترشح زيتاً الآن. والمشكلة ليست في الحرب وأيامها فحسب، بل في أن قادتها تسيدوا على البلد في زمن السِّلم وصاروا أيقوناته الممجدة، وباتت غزواتهم مقدسة، وأصبحت الحرب بالمعنى العام مناسبة فولكلورية، اذ نحتفي بالبوسطة وصورها ونبتعد عن القضايا التي فتكت بنا، نتهرب من قضية المخطوفين.

أربعة عقود على بداية الحرب، وبقي كل شيء حول تأريخها موضع خلاف ووجهات نظر، من القول إنها "حرب داخلية مئة في المئة"، الى اعتبارها حرباً كولونيالية، ومن توصيفها بأنها حرب طائفية الى اختصارها بالقول إنها "حرب الآخرين على أرضنا" بحسب غسان تويني. وأياً يكن التوصيف، كانت الحرب فداحتنا المميتة، الحرب اللبنانية لم تبدأ يوم البوسطة، بل حين شُرّع السلاح لتحرير فلسطين، في البداية بالغ اليسار في شعارات التغيير و"البرنامج المرحلي" للحركة الوطنية، سموا المنازعات "ثورة" هدفها التغيير إلى أن وقف الشاعر محمد العبدالله على سطح احد المباني وقال "إنها حرب أهلية أيها الرفاق". اليمين لم يكن أقل فداحة، خاض حروباً وارتكب مجازر في تل الزعتر وغيره وسمى حربه "مقاومة"، كان يعيش فوبيا الغرباء من الفلسطيني إلى السوري واليساري.

 بين "ثورة" اليسار و"مقاومة" اليمين، قتلت الحرب كل الأحلام، تركت المجال الواسع لمشاريع الخراب وإقامة الكانتونات والدويلات وخطوط التماس والمحميات، منذ انهارت الحركة الطالبية وانتقلت من الجامعات الى الخنادق، صار لبنان في المأزق الدائم وتبخرت اطر التواصل بين مكوناته، خصوصاً أن المنازعات والأزمات اللبنانية المتكررة جعلت الحرب حاضرة في نفوسنا وفي يوميتنا وأفكارنا.

أربعة عقود على حرب البوسطة، احتفظنا بصورة البوسطة ونسينا أسماء القتلى فيها، بل طبقنا مقولة ستالين "المجزرة مسألة عدد"، ونستذكر الحرب فنقول 15 عاماً، عدد القتلى فيها 150 ألف شخص، وعدد المخطوفين 17 ألفاً... لا ضرورة للعودة الى الحرب الأهلية الطويلة لنقول "تنذكر ما تنعاد"، علينا أن نعود الى الزمن القريب لنتحسس واقعنا أكثر. إذا تخطينا مواسم الحرب اللبنانية الاسرائيلية وما جلبته لنا من ويلات ومآس، نتذكر حرب جرود الضنية العام 2000 والاغتيالات السياسية من رفيق الحريري الى محمد شطح، ومعارك نهر البارد والجامعة العربية و7 آيار، معارك جبل محسن وباب التبانة وعبرا وعرسال، من دون أن ننسى الاشكالات في القرى والأحياء من حي الشراونة إلى الرويس ومار مخايل.

لطالما وُصفت الحرب اللبنانية بأنها "حروب الصغيرة"، وما جرى خلال سنوات ما بعد الطائف هي حروب صغيرة أيضا، وإن بمراحل متباعدة متفاوتة، لا يجب أن نستسهل بها. حرب صغيرة في عرسال بدأت معالمها مع الأزمة السورية، ولم تنته مع معركة الجيش اللبناني والمسلحين في آب الماضي، كانت نتيجتها حتى الآن مقتل نحو سبعين مدنيا عرساليا -لبنانيا وبعض المفقودين، وأكثر من ثلاثين عسكرياً وضابطاً و25 مخطوفا من الجيش والقوى الأمنية في جرود عرسال، وعشرات الجرحي (ولا ننسى اعداد القتلى من النازحين السوريين). لم ننتبه كثيراً إلى أن عدد القتلى تراكم، منهم من قتل في كمائن عشائرية ومنهم من ذهب ضحية تبادل القصف بين الجيش ومسلحي داعش والنصرة، أو بقصف طائرات النظام السوري، هذا عدا عن أن عائلة فقدت أربعة من اطفالها دفعة واحد بصاروخ عرف مصدره لكن الدولة تجاهلته، تعددت أساليب القتل والنتيجة واحد.

حرب صغيرة في عرسال كان نتيجتها خطوط تماس وقطع طرق وخطف وكمائن وتهجير ونزوح، هناك عشرات العائلات التي هجرت أمنياً من مناطق قريبة من مشاريع القاع وجوسيه والقصير، وهناك عشرات العائلات التي رحلت قسرياً من عرسال الى زحلة وبيروت وإقليم الخروب، هذا عدا عن إفرازات الحرب ونشوء العصابات واللصوص والفوضى والتبدل السلوكي لبعض لشبان وتنامي انتشار السلاح. تركت الدولة اللبنانية الأمور تسير بفوضاها وصارت تحصد النتائج السيئة، وصارت صفة الإرهاب تطارد كل عرسالي، لمجرد انه عرسالي.

حتى لا نتحدث عن الحرب التقليدية واحصاءات القتلى فيها، هل نتذكر ان معارك نهر البارد سقط فيها 170 عسكريا عدا المدنيين؟ هل نتذكر انه في يوم 7 آيار "المجيد"، بحسب تسمية حسن نصرالله، سقط أكثر من 80 قتيلا؟ هل نتذكر أن جولات الحرب تجاوزت العشرين بين باب التبانة وجبل محسن؟ وهل نفكر قليلاً لماذا فجأة انتهت خطوط التماس بين المنطقتين؟ هل من أحد أحصى عدد القتلى من المواطنين العابرين الذي ذهبوا ضحايا عمليات الاغتيال السياسي في بيروت والمناطق؟ أليست الاغتيالات السياسية ذروة الحرب الأهلية؟

 أربعة عقود على بداية الحرب اللبنانية، ذكرى بعيدة لكنها مع الحروب الاقليمية المستفحلة، باتت كأنها البارحة.


(*) وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ (زهير بن أبي سلمى)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها