الأربعاء 2014/12/17

آخر تحديث: 14:14 (بيروت)

من أخبار لغة العرب

الأربعاء 2014/12/17
من أخبار لغة العرب
"بلاط الملك" للمستشرق النمساوي لودفيغ دويتش (1855 - 1935)
increase حجم الخط decrease
قد يخطر لمتصفّح لسان العرب أن يستمرّ في القراءة متخطّياً ما يبحث عنه من معنى الكلمة وجذرها وتاريخها وورودها في الشعر العربي والمأثور الكلامي. ذاك أنّ معجم إبن منظور  يأخذه إلى متعة القراءة حيث تتحوّل الكلمات إلى ما يشبه القصص. وثمة هذا الغوص للكلمة إلى جذورها الأكثر عمقا فتبدو آتية من تاريخ حافل لها، ذاهبة بذلك إلى منطقها الممتع. في أحيان، ونحن نقلّب أبصارنا بين ما يلحق بالكلمات من تفاسير وتعليقات، نروح نقول إنّ هذه اللغة هي أمّ للناطقين بها، وليست فقط لغتهم الأمّ. أمٌّ لعقلهم ولإدراكهم ولمنطقهم الذي قد يقصرون عنه وعن اللحاق به. لهذا قيل ربما إن لغة العرب أقدم من العرب أنفسهم، وزعموا، لشدّة الإفتتان بها، إنها لغة آدم في الجنّة.

وقد بلغ من افتتانهم بها حدّ أنّهم بدوا كما لو أنّهم يحتفلون بها في كلّ قول يقولونه. وهم أكثروا من الكتابة بها بسبب هذا الإفتتان. في رأس ذلك كان الشعر الذي يظهر فيه ذلك الإحتفال قويا طاغيا. وإلى الشعر، لم تكتب أمة قدر ما كتب العرب، كان يدرّسنا معلّمنا في الجامعة. وفي مكان ما قرأنا أنّ الكتب التي كانت بين يدي إبن سينا هي أضعاف مضاعفة مما كان بين يدي القديس أغسطين. كان ذلك الزمن القديم زمن الشعر والكتابة. وكان مجال هذين الإثنين متّسعا إلى حدّ أننا كنا نفاجأ مثلا أن أولئك السابقين كتبوا عن كلّ شيء بما في ذلك البلدان والبحار والإنسان والحيوان والمال والصيد وإدارة الدواوين والمجالس وعما يتصل بالتقاء الرجل والمرأة وعن الظالمين والمظلومين. كنا نفاجأ وما نزال، إذ نرى كيف أنّ المجال الذي تنحصر فيه كتابتنا الحديثة ضيّقٌ ويدور حول ما نواجهه ويواجهنا من محننا، غير ملتفتين إلى سعة العالم وكثرة موجوداته. 

الآن، وعلى الرغم مما نقرأ في الموسوعات وكتب اللغة عن أن "معجم اللغة العربية لا يجاريه أيّ معجم آخر" وأن لغتنا هي "أوسع اللغات السامية انتشارا" إلا أننا نحتاج، في مديحنا لها، إلى أن نرجع كلّ هذه القرون إلى الوراء. فمع أن عدد المتكلّمين بها ينوف عن الأربعمئة مليون إنسان، وأنها لغة الكلام والكتابة في دول عربية ودول مجاورة لها في آسيا وأفريقيا، إلا أنها، لتبقى، حتى على السدّة المنخفضة التي هي عليها الآن، تحتاج إلى جرعات دعم ومساعدة.

اللغة التي سبق وجودها ما هو معلوم من تاريخ العرب تتراجع الآن بوتيرة السنوات وليس بوتيرة القرون. لا يحتاج الملاحظ إلى تدقيق كثير حتى يعرف أنّ اللغة الإنكليزية تزاحم العربية في بلدان الخليج مثلا،، ما يشبه حال سنغافورة البلد المتأخّر التكوين، وأنّ النخب في البلدان الفرنكوفونية أخذت تملأ بالإنكليزية الفراغ الذي أحدثه ضعف حضور اللغة الفرنسية، وأن ترصيع الكلام العربي بعبارات وجمل إنكليزية طريق لدلالة المتكّلم على ترقّيه الإجتماعي، في كل مكان من أمكنة العرب. كأنّ العربية، إن أتيح لها البقاء، فعلى ألسنة من لم يمّكنهم ظرفهم الإجتماعي من تجاوزها إلى لغة سواها.

تراجع العربية يجري بوتيرة السنوات إذن لا بوتيرة القرون أو العقود. هي سرعة مفاجئة تلك التي يكاد يضمحلّ فيها حضور التراث العربي، ألشعري والفكري والفلسفي، في الحياة الثقافية العربية. منذ سنوات غير كثيرة كانت أسماء الأعلام العرب حاضرة حتى في التخاطب اليومي، وكذلك بعض أقوالهم وأشعارهم. ألآن صار هناك معنى آخر لما سأله صديق محبّ للشعر لصديقه، ألمحبّ للشعر أيضا: ماذا ستفعل بما حفظته من قصائد؟

كأننا في زمن الفجوة، تلك التي بدأ العرب فيها بإهمال ثقافتهم ولغتهم من دون أن يصلوا بعد إلى تمثّل ثقافة أخرى بديلة. لم تحلّ الإنكليزية محل العربية ثقافيا بل ما جرى هو الوقوع في الوقت الفارغ. لم يُحدث تراجع القراءة بالعربية إقبالا على القراءة باللغة الإنكليزية، أو الفرنسية مثلا. على الأرجح إنها الأمية، أو الذهاب طوعا إليها، سبب تراجع العربية الأوّل. 


* كتبت هذه المقالة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 18 كانون الأول.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها