الأحد 2015/08/02

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

نفايات بيروت ولغة الجرذ

الأحد 2015/08/02
increase حجم الخط decrease
اعتاد فريق الراب اللبناني "اشكمان"، رسم غرافيتى عن بيروت واحوالها ومشاهيرها وكلام ناسها، رسم "عبارات "بيروت ما بتموت" و"الشارع لنا" و"لبيروت من قلبي سلام" اغنية فيروز الشهيرة مع صورتها، هذا عدا عن وجوه لغرندايزر وصباح ووديع الصافي وعبارات "انت حر أو لا تكون".

كان مبدأ "اشكمان"، المؤلف من الشقيقين عمر ومحمد قباني، انه يرسم على جدران المدينة لتنظيفها من وسخ الحرب الأهلية وعبارات الأحزاب التقسيمية والشعارات القذرة. قدم جهداً في هذا المجال، وأبدع في اختيارات أعماله إلى جانب آخرين. لكن بيروت التي أراد فريق إشكمان جدرانها نظيفة من قذارة الحرب والميليشيات، فجأة وجدت نفسها غارقة في طوفان النفايات وأضافت الى سجلها التاريخي أو صورها المتعددة صور "بيروت مدينة القمامة". كانت القمامة بروفة لحرب أهلية جديدة أشد فتكاً وأكثر تدميراً، قلبت الموازين والنظريات، أظهرت ما في الأحوال النفسية اللبنانية من نفايات وأحقاد وعقد وتلوث، نسفت أي مشهد جمالي وحضاري خلال أيام قليلة، بيّنت عجز اللبنانيين عن حل أبسط الأمور، ولم يبق أمام "اشكمان" سوى "طس" استنسل لجرذ ضخم مع عبارة "قرّب عل الطيب". كأن كل الجماليات الأخرى انتهت لمصلحة صورة واحدة هي القمامة، التي يجد فيها الجرذان ملاذهم ومكان مرحهم ورعبهم وقرفهم و"طيبّاتهم"...

ما فعله فريق اشكمان أنه قدم سخرية سوداء من الواقع المرّ الذي تعيشه بيروت ولبنان، ذلك لأن مشهدية الجرذان ما زالت ترعبنا منذ زمن الحرب، أرهقنا جيوبنا لنبعدها عن حياتنا، وفي أيام قليلة بدا كأنها ستعود بقوة... من قبل كانت هناك بعض العبارات الغرافيتية التحذيرية التي تكتب على الجدران مثل "يا ابن ... لا ترمي الزبالة هنا"، و"لا تبول على الجدار يا.."، تلك العبارات الغابرة ضاعت في بحر النفايات المنتشرة بين الجدران وعلى الطرقات وفي الكواليس، وصار الخوف من الجرذان والقوارض. وبات السؤال إلى أين نأخذ النفايات؟

وسط هذه المعمعة، ندرك أن للجرذان رمزيتها السيكولوجية والأدبية والإجتماعية السوداء، هذه الرمزية التي بالغ الكتّاب في توظيفها، سواء في التحليل النفسي- الفرويدي أو بعض الروايات العالمية ("الطاعون" لألبير كامو نموذجاً) وعشرات الأعمال الأدبية العربية الأجنبية. وربما كانت الروائية اللبنانية نجوى بركات سباقة في تناولها صورة بيروت والجرذان في روايتها "يا سلام". ملخص الرواية "بيروت مدينة الجرذان والمستقبل" وفي متنها نستنبط ما معناه ورمزيته أن الجرذان هي التي صنعت الحرب ودمرت حيوات الناس. فالجرذ حاضر في كل بقاع الأرض. يضاجع في كل المواسم وكل الإناث، لذا تمنى بطل الرواية "لقمان" لو أن "زميله" كان جرذاً ليكون الأكثر مضاجعة وتدميراً وتناسلاً. ومن شطحات الجرذان وخصائصها استنتج "لقمان" أن هناك نوعين من الكائنات الحية فقط يصنعان حروباً ضد جنسهما: الجرذ والإنسان. والإثنان لا ينفعان أياً من الكائنات الحية الأخرى، ويدمران كل أشكال الحياة...

لا ضرورة الآن للدخول في تفاصيل كل الروايات التي تتناول الجرذان سواء من خلال الخيال العلمي او عبر الواقع الكابوسي... هدفنا التأمل قليلاً في رمزية استنسل الجرذ. ففي عالم الغرافيتي والاستنسل ليس "اشكمان" أول من لجأ الى توظيف الجرذ او الجرذان في موقف ساخر. ما فعله "اشكمان" انه أضاف الى الصورة العبارة اللبنانية التي تثير القشعريرة والقرف. نعلم أن بليك لي رات، من أوائل رسامي الغرافيتي في باريس، ويوصف بأنه والد فن الغرافيتي بالاستنسيل. بدأ عمله الفني العام 1981 عندما كان يرسم الجرذان على أسوار شوارع باريس، ويصفها بأنها "الحيوان الحر الوحيد في المدينة، والذي ينشر الطاعون أينما أراد فيها، تماماً كفن الشارع". وقد تحدث بانكسي عن تأثير بليك، وقال إنه كلما رسم رسماً مبتكراً، وجد أن بليك قد صنع مثله قبل عشرين عاما. بانكسي لديه شخصيات واضحة يحب استعمالها.. أهمها الجرذان، بوصفها أكثر المخلوقات نبذاً من طرف البشر والتي يرون في تصرفاتها كل أنواع الشغب والفساد، ويرونها مسبباً رئيساً للفوضى، ولهذا فهو يحب استخدامها وتوظيفها كرمز واضح لما يعانيه البشر من سيطرة الشركات والسياسيين على حياتنا وأفكارنا ومعتقداتنا. وبانسكي في زمن الربيع العربي، الذي كثرت فيه رسوم الغرافيتي، رسم جرذاً يحمل وجه القذافي الذي كان وصف معارضيه بالجرذان.

لا مانع من القول اننا في زمن سياسة الجرذان، وشركات الجرذان والعقول الجرذانية التي تعمل على مبدأ "من بعدي الطوفان"...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها