الجمعة 2014/11/28

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

رحل سعيد عقل.. قبل اكتشاف إكسير الخلود

الجمعة 2014/11/28
increase حجم الخط decrease

ذات يوم، قال الشاعر سعيد عقل لإحدى الصحف اللبنانية، إنه سيعيش إلى عمر المئة والخمسين، وإلى حينها يكون الإنسان توصل إلى اكتشاف دواء للخلود، فيعيش إلى الأبد.

وهو في حياته يعتبر من أبرز الشعراء المعمّرين، وكان عمره جزءاً من شخصيته التي تجمع الكثير من التناقضات الغريبة والمتضاربة والقوية والهذيانية. هزّ كثيرين بمواقفه العنصرية وبلغته العربية الجميلة، وجعل للشاعر مقامه "الأسطوري"، على عكس شعراء التشرد والصعلكة والحانات. لكن يبدو أن الخلود مجرد وهم في كل شيء، فها هو سعيد عقل يرحل عن مئة وعامين، بعد أيام قليلة على رحيل الشحرورة صباح، وهما من الوجوه البارزة في الثقافة اللبنانية.

في الرابع من يوليو 1912 ولد سعيد عقل في زحلة (البقاع) في لبنان، وخلال الدراسة بَرَز متفوقاً في مدرسة الإخوة المريميين في زحلة حيث بدأ دراسته حتّى أتمَّ قسماً من المرحلة الثانوية. وكان يعتزم التخصُّص في الهندسة، إلاّ أنَّه، وهو في الخامسة عشرة من عمره، خَسر والده خسارة ماليَّة كبيرة، فاضطرَّ الفتى إلى أن ينصرف عن المدرسة ليتحمّل مسؤولية بيته العائلي. يقول: "بعدما خسِرَ والدي ثروته في العام 1927 لسوءِ إدارته، صِرنا شقيقي البِكر عقل، وشقيقتيَّ هيفاء ولمياء، وأنا أصغرهم، عاجزينَ عن مواصلة تعليمنا، وكان حلمي آنذاك التخصص في الهندسة، وكنت من المتفوّقين في مادة الرياضيات دون سواها، فحضّني أساتذتي على تقويةِ لغتي العربية والفرنسية، وعَزمْت على أن ألمعَ في الأدب بعد مغادرتي المدرسة وكنت في الصّف الأول الثانوي. فقصدت آنذاك مكتبة زحلة وكانت ملكاً لأحدِ الضباط الفرنسيين. انكببتُ على القراءة، وغرفتُ من آداب العالم، الصينيّ والهندي منها، والفارسي، كذلك الأدب الفينيقي وتبحّرت في الأدب العربي، وصولاً إلى الأدب المصري واليوناني واللاتيني، وآداب أوروبا الحديثة. عزّزت قدراتي بالثقافة والمعرفة، لأني قرّرت ألا أنزل إلى بيروت إلا وأنا جاهز ومستعدّ... وهكذا كان، فالقصائد التي كتبتها ونُشِرت متفرّقة قبل جمعها في كتاب "رِندلى" تناهت إلى أسماع شعراء كبار أمثال صلاح لبكي الذي قال لي عندما التقينا في زحلة العام 1922: "بَعدَك سنكسِر أقلامنا". انتقلت إلى بيروت وإلى أوساطها الثقافية، وأقمتُ في شارع عبد الوهاب الإنكليزي، وكنت أوزّع وقتي وإقامتي ما بين زحلة وبيروت". ومنذ البداية كان هيامه بلبنان العظمة، حيث أنشدَ قائلاً: "أنا حسبي أنَّني من جَبَلِ هو بينَ اللهِ والأرضِ كلام". (كما الأعمدة، قصيدة "سائليني").

مارس سعيد عقل الصحافة والتعليم في زحله. لكنّه استقر في بيروت منذ مطلع الثلاثينَّيات وكتب بجرأة وصراحة في جرائد "المعرض" و"لسان الحال" و"الجريدة"، وفي مجلَّة "الصَّيّاد". ودرّس في مدرسة الآداب العليا، وفي مدرسة الآداب التابعة للأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وفي دار المعلمين، والجامعة اللبنانيّة. كذلك درّس تاريخ الفكر اللُّبناني في جامعة الرُّوح القُدُس وألقى دروساً لاهوتيَّةً في معهد اللاّهوت في مار انطونيوس الأشرفية.

نحات اللغة
صنع سعيد عقل لذاته طريقة في الكلام، فيها شيء من مسرحية غير نافرة، و"كاريزما" لا بأس بها، وهو إن حكى تحدّث بطريقة واثقة مترفعة مثل "سلطان". وإن وصفه بعضهم بنحات اللغة، أو "الشاعر الأزميلي" وهو المتأثر بالنحت والتماثيل، لكن هذه الصفة لم يستسغها بعض شعراء الحداثة أو شعراء "قصيدة النثر". وهو وإن أبدع في الغزل ووصف النساء، بقي وصفه جماليا خارجياً ولم يعش المرأة من الداخل، ولم يتردد في الثمانين من عمره في كتابة غزل ملطف للروائية رشا الأمير. وقبل سنوات سأله الاعلامي زاهي وهبي: "كم أمراة أحببت في حياتك"؟ فأجاب: "أحبتني ثماني نساء"، فظن وهبي أن عقل لم يسمع فأعاد طرح السؤال، فكرر عقل باعتداد "أحبتني ثماني نساء".

كان سعيد عقل مهووساً بالمرأة الجميلة، ذلك أن الحب عنده هو كما الحلم. فالحب حلم، والحلم حب. والأمر البارز عند هذا الشاعر، أنه عامل امرأته كما عامل قصيدته. ففي القصيدة كل شيء مختار: الكلمة، الصورة، الوزن، الرويّ .. وهكذا في وصفه المرأة. صحيح أنه استعار بعض أوصافه من الطبيعة، كالورد والفل والنسرين والبيلسان والزنبق. وهو استخرجها من الدواوين القديمة كالأخطل الصغير، إلا أنه صاغها بطريقة ذهنية جديدة، بطريقة معادلات فكرية جديدة، بطريقة معادلات لغوية جديدة.

كتب سعيد عقل غزلاً كثيراً في المرأة، وكما يقول فيه صلاح لبكي: "نحت لا مشاعر فيه ولا شعور"، وارتقى شعره الغزلي بجمالية فائقة أبرزها الدكتور جوزف صايغ في الستينيات بكتابه "أشياء الجمال عن سعيد عقل". غير أن انصرافه عن النساء وإخفاقه في زواجه، علامتان ربما تشيران إلى نوع من اللعنة العاطفية. فقد خطب العام 1952 سعاد أبي صالح، ودامت خطوبته سنتين ولم تصل إلى الزواج. ثم تزوج آمال جنبلاط العام 1983 ولم تلبث أن انتحرت، لأسباب غير جلية. وهو إلى ذلك كان متعلقاً بوالدته لدرجة أنه جعل منها أسطورة وكتب عنها "أمي يا ملاكي". يقول إنه أخذ عنها كل شيء، "عقلها، ذكاءها، ملامحها الجميلة" وبعضهم اتمهمه بأنه يعيش عقدة الأمومة. أما والده فكان ماهراً في شيء واحد: الشتم، لا يكرر الشتيمة الواحدة مرتين.

أناشيد ثلاثة
 
وسعيد عقل المعروف بتمجيد الزمن الفينيقي وخرافاته والعنصرية ضد الفلسطينيين (رغم انه كاتب قصيدة "سيف فليُشهر" التي غنتها فيروز وفيها "أنا لا أنساكِ فلسطين")، كتب ثلاثة أناشيد لثلاث قوميات: نشيد للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ينادي بقومية تضم "سوريا الكبرى"، وبعد سنوات كتب نشيداً لجمعية "العروة الوثقى" في الجامعة الأميركية التي كانت تضم المؤمنين بالقومية العربية من أساتذة وطلاب الجامعة المذكورة بينهم قسطنطين زريق.

وأمضى حياته في ما بعد ينوّع على نشيد واحد "القومية الفينيقية- اللبنانية"، مع أن بعضهم يقول إن أصله من منطقة حوران السورية وجاءت عائلته إلى زحلة قبل نحو مئتي عام. لكن سعيد عقل، بعدما دارت الدوائر وانقلبت الأدوار وصار على ما هو عليه من مواقف وأفكار، راح ينكر أنه صاحب النشيدين القومي السوري والقومي العربي، وادعى أنه كان مغرماً بفتاة في "العروة الوثقى" اسمها ليلى طنوس، وأنها كانت تعرض عليه أشعاراً ركيكة وتجادله فيها "إلى أن قلت لها: سأريك كيف يكتب شعر عروبي.. وكتبت لها هذا النص الذي أخذته وعرضته على أصحابها فاتخذوه نشيداً للجمعية" (من حديث لسعيد عقل أجراه عباس بيضون في ملحق "النهار").

بالنسبة إلى نشيد الحزب السوري القومي "سوريا فوق الجميع"، قال سعيد عقل إن وديع نصرالله من زحلة، أحد أعضاء الحزب القومي، كتب نشيداً ودفعه إليه فطلب منه إصلاحه "فأخذت قلمي وأصلحت النشيد وأعدته إليه. وبعد ذلك اعتمدوه ونسبوه إليّ".

الحزب القومي السوري
يحكى أن سعيد عقل انتسب في بداية العشرينيات من عمره إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعندما كتب نشيد الحزب الرسمي، كان متأثراً جداً بأنطون سعادة لشخصه ولأفكاره، لكن بالنسبة إلى عقل، سوريا كانت هي لبنان. بكلمات أخرى، لم يكن لبنان هو قطعة الأرض الصغيرة الكائنة على الساحل، بل هو سوريا كلها، وهذا نقيض فكر سعادة. وعندما أعلن زعيم الحزب عن رغبته بأن يكون لحزبه نشيد، كتب عقل مشروع النشيد وقدمه إليه، يقول فيه:
صخبُ البحر أم الموجُ السخيّ
أم بلاد تملأ الدنيا دويّ
سوريا - يقظةٌ ملء المدى
بسمةٌ ملء الربيع
سوريا فوق الجميع

لكن سعادة، بحسب الكاتب جهاد فاضل، رفض اعتماد النشيد لسبب جوهري هو أن الشاعر يقول فيه: "سوريا فوق الجميع"، وهي عبارة تستدعي إلى الذهن، برأيه، عبارة هتلر الشهيرة يومها: "ألمانيا فوق الجميع". ولأن الحزب السوري القومي كان في نظر كثر، في لبنان وسوريا، في تلك المرحلة، مجرد صدى محلي للحزب النازي، حزب هتلر، فقد خاف سعادة من أن يقول الناس: "من فمك أُدينك"، أي أن حزبه هو عبارة عن فرع لبناني وسوري للحزب الأم. هكذا رفض، فور الاطلاع على نشيد عقل، أن يعتمده نشيداً لحزبه وعكف بنفسه على نظم نشيد الحزب خلال وجوده في السجن، زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، رغم أنه لم يكن شاعراً.

وإذا كان عقل قد أسس "قدموس" على أسطورة فينيقية، فإنه أسس مسرحية شعرية أخرى له اسمها "بنت يفتاح" على قصة توراتية. وعندما قرأها أنطون سعادة فقد عقله، إذ كيف ينظم شاعر قومي سوري حكاية مستلة من كتاب اليهود، وهم أعداء الأمة السورية؟ وأمر يومها بطرد الشاعر من الحزب في وقت كان الأخير مفتوناً بسعادة. وانسحب عقل من الحزب السوري القومي بعد سنتين تقريباً من انتسابه إليه ليتعرف بعد ذلك بسنوات، تحديداً العام 1939، إلى شبان عروبيين في جامعة بيروت الأميركية. كان في تلك الفترة يتردد إلى مطعم "فيصل" الواقع عند مدخل الجامعة الأميركية مباشرة، وهناك نظم على إحدى طاولاته الخشبية إحدى أجمل قصائده التي تغزّل فيها بإحدى الطالبات الجميلات التي كانت محطّ إعجاب الجميع ويقول فيها:
سمراء يا حلم الطفولهْ
وتمنّع الشفة البخيلة
لا تقربي مني وظلي
فكرة لغدي جميلة

في هذا المطعم، وعلى فنجان قهوة، تعرف إليه شباب "العروة" وكان من بينهم الحداثوي العروبي قسطنطين زريق، وقيل إنهم طلبوا منه أن يكتب نشيداً لجمعيتهم، ففعل، وكتب النشيد التالي:
للنسور ولنا الملعب
والجناحان الخضيبان
بنور العلى والعرب
ولنا القول الأبي
والسماح اليعربي والسلاح
ولنا هزّ الرماح في الغضوب المشمس
ولنا زرع الدنى
قبباً زرق السنا
ولنا صهلة الخيل من الهند الى الأندلس

أحدث النشيد ضجة كبرى في المنتديات الثقافية والسياسية العربية وكلف رئيس جمعية "العروة الوثقى" قسطنطين زريق الأخوين فليفل تلحينه.

نفذ عقل في نشيده إلى أعماق تاريخ العرب، وتمثل أمجادهم وأيامهم أفضل تمثل، لكنه سرعان ما ندم على النشيد، وباتت النسور علامة في السياسة العروبية "القومجية"، من النشيد السوري "نحن النسور نسور سوريا العرب"، إلى شعارات النسر التي توضع على القبعة العسكرية في مصر وسوريا والعراق. والمفارقة أن أحد الباحثين السوريين يشرح شعار النسر قائلاً: "وتبقى إشكالية خلط بعض الناس بين النسر والعُقاب، فكثيرون يخطئون بوصف شعارنا بالنسر، وهذا يحتاج إلى بحث خاص، لكننا نقول باختصار أن هذا الخلط بين النسر والعقاب جاء إثر الوحدة حيث كانت مصر تتخذ النسر شعاراً، وأصبح هو شعار الجمهورية العربية المتحدة، وعندما انفصلت عرى الوحدة عادت سوريا إلى شعار العُقاب، وبقي اسم النسر دارجاً على ألسنة الناس، وأذكر أن العسكريين كانوا يصححون لمن يخطئ بتسمية شعار سوريا ويؤكدون أنه العُقاب وليس النسر".

بعد الهوية السورية والهوية العربية، بدأ سعيد عقل يمجد الهوية اللبنانية، وطرح نفسه كمعلم سياسي ورجل مستقبلي، وانصرف إلى كتابة شيء من التاريخ معلناً شغفه المطلق بالتاريخ اللبناني القديم والمرحلة الفينيقية فيه، وأغرق نفسه في السياسيات اللبنانية وبدأ يعمل، هو الذي يتربع على سدة الشعر، من أجل أن يحتل مقعداً نيابياً ليكون طريقه إلى الرئاسة و"لبننة العالم بعد بردنة (من نهر البردوني) زحلة وزحلنة لبنان".

"لغة ميتة"
سعيد عقل الذي جمّل اللغة العربية، لم يتوقف عن وصفها بأنها "لغة ميتة". ويصرّ على وصف شعره الذي كتبه بالفصحى بأنه "كرخانة"، وأبعد من ذلك، طرح فكرة الكتابة بالحرف اللاتيني مدّعياً أن خلاص اللغة بهذا الحرف، ووضع نموذجاً لذلك كتابه "يارا". وفي هذا الاطار، يروي الكاتب سمير عطالله: "حاولت أن أقرأ بشيء من الفضول شيئاً من "يارا" فوجدتني أتحوّل عن لغة جميلة إلى لغة غريبة، وغاب في الأسطر اللاتينية الشاعر الذي عرفته، وشعرت أنني أتعرق وأكدّ من أجل أن أقرأ شيئاً كان يمكنني قراءته في دقائق". فقد قرر سعيد عقل، لسبب ما، أن يحتذي نموذج كمال أتاتورك في تركيا، متجاهلاً، غير متناس، الفارق بين اللغة التركية واللغة العربية، وأن الحرف العربي هو حرف القرآن والتراث.

على أن دعوة الشاعر سعيد عقل إلى الحرف اللاتيني أُخذت هي أيضاً على أنها جزء من طرافة الشاعر. وبقي كتابه "يارا" يتيماً، فهو نفسه لم يكرر التجربة وعاد إلى الحرف العربي، ينشر كتبه به، بل عاد ينشر الشعر بالفصحى، مدعياً أنها أشياء كتبت في الماضي، كي لا يقال إنه يكتب الغزل في هذا العمر وإنه تراجع عن الدعوة إلى الكتابة باللغة المحكية أو العامية.

ويبقى أنْ نذكِّر أنّ عقل رَفَضَ ما طرحه فرويد وماركس، من نظريات "أفسدت القيم"، كذلك نَفَر من عبثيّة بيكاسو التي تنادي بالفوضى، ويقال إنه أتى بلوحة لبيكاسو وعرضها على أحد الشعراء ساخراً: هل يتزوج ابنك هكذا امرأة قبيحة، فيما كان معجباً بليوناردو دافنتشي الذي اجترح أجمل اللّوحات، وارتكب أرقى الإبداعات اللونيّة والضوئية، ودوزَن الأبعاد وفق قواعد علمية رياضية، وغَزَلَها بالمشاعر العاطفيّة حيناً، وبالتجلّيات الروحيّة أحياناً، وكانت لوحة الموناليزا إحدى إبداعاته. يقول سعيد عقل: "فرق شاسع بين الفنِّ والصّرعة، وأنا لم أندم يومًا على أيِّ خطٍّ، أو توجّهٍ أو رأيٍ، أو موقف..". كذلك كان يرفض التشكيك في حبِّه للعرب، وهو الذي تغنّى بمكةَ، والقدس، ودمشق، وبغداد... ويردّد: "كيف لا أحبهم وهم يحبونني، وكيف أنسى جهابذة الشعرِ لديهم والفطاحِل: أبو تمام، أبو العلاء المعرّيّ، امرؤ القيس، المتنبي شاعر المديح والرثاء والهجاء... والأخطلين، وعمر أبو ريشة، والماغوط... والجواهري، والسيّاب والبياتي...".

.. ومات سعيد عقل، اليوم، 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ونستطيع القول أنه آخر الشعراء الكلاسيكيين، وربما آخر "اللبنانيين"...

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها