الخميس 2015/11/26

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

"مذكرات لمفتش وحيد" ... اعادة النظر في المونتاج

الخميس 2015/11/26
increase حجم الخط decrease
في فيديو "مذكرات لمفتش وحيد" الذي عرض ضمن فعاليات "أشغال داخلية 7" التي تنظمها جمعية "أشكال ألوان"، تخلط صانعة العمل رانيا اسطفان أنواعا عدة من أفلام الجريمة ثم تعمد لإجراء "حوار" بين هذه الافلام مع أنماط سينمائية أخرى. ترتكز على "لورا" (1944) أحد كلاسيكيات أفلام التحقيق الهوليوودية من نمط Film Noir ثم تدخل عليه مشاهد من مسلسل "المفتش وحيد"، العمل النادر من هذا النوع، الذي أنتج في لبنان خلال سبعينات القرن الماضي، وفيلم تحقيق آخر هو "العتبة قزاز" (1969) للمصري فؤاد المهندس. تأخذنا اسطفان بعدها في رحلة سينمائية منذ بداية القرن العشرين، مع أحد أول أفلام الفيكشن في التاريخ "أليس في بلاد العجائب" (1903) وأفلام للأخوين لوميير بالإضافة لأفلام لبنانية قصيرة وأفلام كرتون.

لكن اسطفان في خلطتها السينمائية العالمية هذه، تدخل بعدا في غاية الخصوصية. فقد ادخلت فيلم تحقيق صغير من نوع مختلف، نسجته من مقاطع صورتها في الثمانينات، ويتمحور حول البحث عن أثر لوالدة المخرجة التي قتلت في انفجار خلال الحرب الأهلية. تخبرنا اسطفان بعد العرض أنها بحثت عن والدتها في عدد كبير من أشرطة من نوع Hi8 و Video8 ولم تجد سوى مقطعا من 15 ثانية. فتستعيض عنها بمشاهد أخرى قديمة لوالدها، كأنها بطريقة أو أخرى، تحاول البحث عن تأثير والدتها الراحلة في تصرفات الرجل. لا تتضمن هذه المشاهد احاديث كثيرة، فقط رجل كبير في السن يحاول أن يقول شيئا بدون أن يقول. تتداخل صور الرجل مع صور أفلام "لورا" و"العتبة قزاز" فتصير جزءا منها. نراه حينا يرقص مع ابنتيه على أنغام موسيقى شعبية ومرة أخرى يقف ليتصور في حديقة، ثم ننتقل الى فيلم سينمائي معروف بعد ثوان. يصير الخاص هنا عامّا، فالرجل على الرغم من خصوصيته بالنسبة لصانعة العمل لكنه وسط تلك المشاهد الفيلمية، يصبح أليفا بالنسبة للمشاهدين كأنه شخصية أو ممثل من تلك الأفلام المعروفة ولم يعد يخص اسطفان بشيء.

لا تلجأ اسطفان في مونتاج الفيلم لصناعة بنية قصصية، بل ما تصفه أنه محاولة لجعل المونتاج يعمل بطريقة تشبه عمل الذاكرة. ينقل المونتاج بين المشاهد في سلسلة لا تنتهي من الاحالات البصرية او الصوتية. على سبيل المثال نشاهد وحيد جلال يتحدث عن جريمة قتل في مسلسل "المفتش وحيد"، ثم تقطع الصورة وننتقل لمقطع من أفلام كرتون "جون سيلفر". يرتبط المشهدان ببعضهما من خلال الصوت فقط في أداء الممثل وحيد جلال الصوتي لدور شخصية القبطان جون سلفر. من الممكن أن ننتقل من خلال الصورة مثلا من فيلم وليد رعد "أتمنى فقط لو أستطيع البقاء"، الذي يتمحور حول مشاهد للغروب في عين المريسة، الى مقطع من فيلم كرتون تتحدث فيه الشخصية الرئيسية عن المعنى الفلسفي لغروب الشمس. يرن الهاتف في فيلم "لورا" فيجيب زوزو شكيب من فيلم "العتبة قزاز"، أو ينظر مارك مكفرسون على المرآة ليجد فؤاد المهندس ينظر نحوه، لترتبط المشاهد هنا في موضوع واحد هو البحث عن القاتل أو فك لغز جريمة ما.

هكذا في خروج المونتاج من قواعد عمله الأساسية، التي من المفترض ان تبنى على عدم اشعار المشاهد بالقطع. تنقلب القاعدة ويصبح القطع مفضوحاً، ويدخل المشاهد في عملية صناعة الفيلم بطريقة مباشرة مع المخرجة. يساعد في تفعيل هذه المشاركة عدم ادخال اسطفان حوارا واضحا في الفيلم، فيسود الصمت في أجزاء كبيرة من العمل، التي يضطر المشاهد لملء فراغها بنفسه من خلال اجراء حوار متخيل بين الشخصيات. كل مشاهد يملأ الحوار الناقص بحوار خاص من مخيلته. يذكر هذا بأفلام أخرى تشترك بتلك الخاصية مع فيلم اسطفان مثل أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، التي تعتمد على الصمت كأداة لإشراك المشاهد في صناعة العمل، بما يسميه سليمان "دمقرطة الصورة"، إي اتاحتها للمشاركة من الجميع بشكل متساوٍ. كأن الفيلم يحاول اعادة فعل المشاهدة الى أساسه بما هو عملية ذاتية بامتياز، تعتمد على عوامل شخصية مثل درجة ثقافة المشاهد او مزاجه اللحظي، في تأكيد حقيقة أن كل مشاهد يضع رغباته على الشاشة الكبيرة أمامه وكل ما يحدث على تلك الشاشة صار مرتبطا فيه وحده ولم يعد ملكا لصانعه.

عرض فيلم اسطفان في افتتاح الدورة الخامسة والستين لمهرجان برلين السينمائي (Berlinale)، ويعتبر التجربة الثانية للمخرجة من هذا النمط، الذي ينسج مقاطع من أفلام معروفة من بعضها بعد فيلم "إختفاءات سعاد حسني الثلاثة"، الذي حاول صناعة سيرة ذاتية لحسني من خلال أفلامها. ويبدو أن اسطفان التي درست في السابق "نظرية الفيلم" في أستراليا وفرنسا، مكملة في تجاربها الفيلمية، وهي تخطط لصناعة فيلم آخر من أفلام التحقيق بعد فيلم "مذكرات لمفتش وحيد". وتعتبر تجربة اسطفان هذه في غاية الأهمية في مقارنتها مع تجارب أخرى من هذا النوع، فهي في اعادة تدويرها لمشاهد السينما العربية والعالمية، لا تكتفي فقط في نسج قصص جديدة منها لكنها تقوم باعادة النظر من جديد في وظيفة الصورة والمونتاج والصوت في هذه الأفلام وأخذها الى أمكنة جديدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها