الثلاثاء 2015/03/17

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

النقيب طوروسيان: "شهرزاد" أرمني للحرب العالمية الأولى

الثلاثاء 2015/03/17
النقيب طوروسيان: "شهرزاد" أرمني للحرب العالمية الأولى
في مسيرة الولاء المستحيل للنقيب الأرمني، تظهر، بلغة الفرد، ملامح الفاجعة الأرمنية الجماعية
increase حجم الخط decrease
لم يكن الحكي لشهرزاد مجرد نجاة أو حيلة أنثوية أو فعل مقاومة للموت المحمول على شفرة السيّاف الأسطوري: حامل سيف الإمبراطور الحاكم. كان فعل القصّ لشهرزاد، وجوداً بالكامل. كانت قصص شهرزاد تعني أن يكون الحكي مطهراً مفتوحاً للصعود إلى الحياة، وأن يوازي الصمت الانمحاء من الوجود.

وفي كتاب "النقيب سركيس طوروسيان: من الدردنيل إلى فلسطين" (الصادر في 2014 عن "منشورات دار رياض الريس - ترجمة: عبد الرحمن أياس)، تتجاوز الكلمات أن تكون مجرد سيرة ذاتية يرويها النقيب الأرمني الذي خدم في جيش الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، قبل أن ينقلب عليها في الحرب عينها، ليصير مقاتلاً في صفوف الثورة العربية.

على مدار وقت الحكاية (وهو بمعنى ما وقت القراءة أيضاً)، يبدو ذلك العسكري كأنه يقف على حدّ شفرة السيف الذي عاشت عليه شهرزاد، طوال لياليها الأسطوريّة: دوماً على قيد الحياة، دوماً على شفا الموت المرتسم في أفق الإمبراطور الحائر. كانت الإمبراطورية العثمانية حائرة، في شأن ليس بعيداً من حيرة شهريار. في كلتا الحالتين، يطلب الحاكم الإمبراطوري الولاء التام، بالجسد والروح اللذين يعتبرهما دوماً ملكه. ولا شيء يجعله قريباً من الجريمة ومحو الأجساد والأرواح، سوى شكوك هائلة تهيمن على مخيلته، وتجعله يرى خيال الخيانة معلقاً دوماً في الهواء.

إذ يرى شهريار، وكذلك "جمعية الاتحاد والترقي" التي استولت على الامبراطورية الإسلامية- العربيّة قبيل الحرب العالمية الأولى، أن الخيانة هي الأصل، والولاء موضع شك. لا شيء أوضح من الشك الذي يتأرجح دوماً في مخيلة ورثة العثمانيّين، في المسيحي- الأرمني الذي كان ضمن قلة من الضبّاط المسيحيين في الجيش التركي ذي الجذور الإسلاميّة.

هل كان ذَنْب طوروسيان فعليّاً أنّه، كشهرزاد تماماً، صدّق الزعم الإمبراطوري؟ ألم يسعَ شهريار إلى زواج يفترض أنه يحمل زعمه بأنه يطلب الولاء، لكنه يعيش تناقض أنه لا يصدق وجود ذلك الولاء أبداً؟ ويأتي القتل والإيغال فيه من استمرار التناقض الامبراطوري. وصدّق طوروسيان زعم "جمعية الاتحاد والترقي" أنها تريد نقل الإمبراطورية العثمانية إلى مرحلة الامبراطوريات الأوروبية التي كانت نماذجها "المتألّقة" حينها، في تجارب مثل التي خاضها نابليون وبسمارك. صدّق طوروسيان أن السُعاة إلى التتريك سيعتبرونه تركيّاً، بل إنهم ينظرون إلى كل من يعيش في الامبراطورية العثمانية كمواطن "تركي"، بمن فيهم العرب والمسيحيون والأرمن واليهود وغيرهم. ألا يبدو ذلك الزعم، حتى بالكلمات، فائق التناقض؟

المذبحة وظلالها المتداخلة
تحمل شبه السيرة الذاتيّة لطوروسيان، عنواناً فرعيّاً هو "قصة حقيقيّة عن خمس جبهات قتال لتركيا وحلفائها وقصة حب في الحرملك"، ويدور معظمها حول الاخلاص المستحيل الذي حاول الأرمني (ونموذجه طوروسيان) إثباته. وتُستهّل تلك المحاولة بقصة علاقة طوروسيان مع صديقه الحميم، محرم، وأسرته العربية التي يقف على رأسها أبوه الباشا. وقاتل طوروسيان بضراوة، دفاعاً عن مضيق الدردنيل أثناء إنزال غاليبولي الشهير، بل نال أوسمة وتنويهات شتى من جيش الإمبراطورية التركيّة.

وعلى عكس شهرزاد، لم يستطع الأرمني إخماد الشكوك في نفس الإمبراطور المتناقض، الذي لا يجد حلاً لصداع تناقضاته إلا باجتثاث رؤوس "الآخر": المرأة عند شهريار، والأقليات والإثنيات والقوميات عند دعاة الامبراطوريّة التركيّة. والأرجح أن القصّة الخفيّة في مذكرات طوروسيان هي حكاية ذلك التناقض (بل التناقضات) التي عاشتها محاولة تتريك الامبراطورية العثمانية التي جاءت أصلاً من تاريخ عربي- إسلامي في منطقة هي منطلق الديانات السماوية التوحيديّة للكرة الأرضيّة برمّتها! وبحسب ما يرويه طوروسيان، دفع ذلك التناقض المستعصي الامبراطوية التركية إلى قمع وحشي، ولغ في دماء العرب والأرمن.

وعبر مسيرة شخص، تبرز قصة شعب، بل شعوب. وينقل طوروسيان قصة التناقض التركي في مفاصل كثيرة، منها حوار متفجّر بين ضابط أرمني (غيره)، وضابط تركي، يتحدى الأرمني فيها التركي أن يثبت له أن مشروع "جمعية الاتحاد والترقي" هو فعليّاً على المستوى الحضاري للامبراطوريات الأوروبيّة (النابوليونية والبسماركيّة) التي يدّعي أنه يحاول تقليدها.

كذلك يدور حوار مُشابِه تماماً بين ضباط أنكليز ضمّت صفوفهم لورانس العرب، وضابط تركي كان يفاوضهم على أسراهم في إحدى المعارك في العراق. ففي لحظة صفاء صنعها كلام التفاوض (مع شيء من النبيذ)، يرى الضابط التركي أنه يشبه مفاوضيه الآتين من الامبراطورية البريطانيّة، فيرد أحد الضباط الانكليز بالإشارة إلى مقتل مليون أرمني، وفق ما يروي طوروسيان.

وفي مسيرة الولاء المستحيل للنقيب الأرمني، تظهر، بلغة مسيرة الفرد، ملامح الفاجعة الأرمنيّة الجماعيّة، التي "قاوم" طوروسيان تصديقها، إلى أن عاش وقائعها الكارثيّة.

إذ تنقل حكاية الضابط الأرمني، قصة المذبحة العرقية التي عاناها الأرمن. ويقدّم دليلاً إضافيّاً عليها، غير وقائع القتل: مسار القتال في الحرب العالمية الأولى. إذ يروي طوروسيان أن أسطول الحلف الانكليزي الفرنسي كان في إمكانه احتلال القسطنطينيّة، وإلحاق هزيمة مذلّة بتركيا، على غرار تلك التي أُلحِقت بألمانيا. ويعتقد أن ذلك التواطؤ، الذي يرويه عبر معارك خاضها بنفسه في تركيا والبلقان، كان بهدف مَنْع هزيمة تركيا أمام روسيا الأرثوذكسيّة، وهي حليفة الأرمن. وبوضوح، يخلص طوروسيان إلى القول بمسؤولية كبيرة لانكلترا وفرنسا عن المذبحة الأرمنيّة، لأنهما مكّنتا جيش "جمعية الاتحاد والترقي" من تنفيذها، بل امتنعتا عن التدخل حتى بعدما اتضّحت تلك المذبحة، وبعد قدوم متطوعين أرمن من أميركا للقتال ضد تركيا لإنقاذ شعبهم.

كسر في توازيات الرواية
بسبب انفلات القمع الدموي التركي، اجتمع العرب والأرمن في الثورة والتمرّد ضد تركيا. وتكاد السيرة تلامس الرواية وتوازياتها عبر قصة الحب العاصف الذي يربط الأرمني بإبنة الباشا العربي المقاوم للتتريك بما دمّر أسرته، خصوصاً بعد مقتل إبنه محرم. لكن السيرة تغادر تلك الموازاة الروائيّة الطابع، حين يتوضّح أن تلك الإبنة لم تكن سوى أرمنيّة تبناها الباشا وأنقذها من الذبح. من ناحية، يوازي احتضان "جميلة" التحالف بين شعوب اضطهدها الاتراك، ومن ناحية ثانية، ينكسر التوازي لمصلحة... ماذا؟ ربما الواقعيّة، فتكون على غرار المصادفات الميلودرامية، أو ربما أولوية الهوية الجماعيّة.

ومع تأرجح دائم في لغة المذكرات، بين القصّ والرواية، تبقى لغة الحكي الشفاف مسيطرة، ولعله من الإنصاف القول بأن نقل تلك اللغة وخيالاتها وإيقاعاتها الداخليّة، تشكّل تحدّياً للترجمة، استطاع المترجم، عبد الرحمن أياس، استخدام تمرّسه اللغوي في تجاوزها، فجاءت المذكرات كأنها نبتة نقلت من تربة إلى تربة بعناية ودراية، فاستطاعت أن تكون حيّة في التربة- اللغة التي انتقلت إليها.

والأرجح أنه بسبب قوة النموذج الحاضر في مذكرات طوروسيان، يذكّر د.جوزيف كشيشيان، في مقدّمتها، المعركة الاخرى التي خاضتها تركيا ضد مذكّرات طوروسيان، وهي شاهد على المذبحة الأرمنية التي دأبت تركيا على رفض الاعتراف بها. ووصلت تلك المعركة إلى حدّ إنكار وجود طوروسيان جملة وتفصيلاً، بل إن الإشارات إليه، خصوصاً شهادات وزارة الدفاع التركية وميدالياتها المنوّهة بشجاعته، حذفت من السجّلات التركيّة كلها، وبعناية.

لا تكون شهرزاد حقيقيّة ولا وهميّة، إلا بمقدار ما يكونه شهريار نفسه حقيقيّاً أو وهميّاً. والأرجح أن وصفاً موازياً يمكن قوله في طوروسيان وتركيا والمذبحة الأرمنيّة و"جمعية الاتحاد والترقي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها