الإثنين 2014/10/06

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

"سيرة الاخوين فليفل": كشكول الأناشيد وظلم الدولة

الإثنين 2014/10/06
increase حجم الخط decrease

ثمة الكثير من العباقرة والمبدعين اللبنانيين (والعرب) الذين ظلمهم الزمن، والسياسة وربما الجغرافيا، وظلوا مغمورين رغم اهميتهم وعطاءاتهم، ومن بينهم الاخوان فليفل (محمد وأحمد) اللذان قدما أبرز الأناشيد الحماسية والرسمية في العالم العربي. وفي هذا السياق، اختارت جمعية "عِرَب" الموسيقية أن تكرمهما في كتاب "اللحن الثائر"، نظراً لدورهما واسهاماتهما الموسيقية التي عززت حضور الموسيقى والأغاني في حياة اللبنانيين، أولاً من خلال جهدهما لإدخال الموسيقى في المناهج التربوية، وثانياً عبر المسيرات التي كانت تقوم بها فرقتهما الموسيقية في الأحياء الشعبية في بيروت، عدا عن تأسيسهما فرقة موسيقى الدرك اللبناني. وضمت أعمال هذين الموسيقيين مواضيع مختلفة تتماهى وروح العصر والمجتمع، واشتملت على المارشات العسكرية والأغاني البيئية والأناشيد الوطنية والدينية، ما احدث وثبة نوعية في الألحان المحلية آنذاك والتي كانت مقتصرة على الاهازيج والمواويل الشعبية.

وقسمت "عِرَب" الدراسة إلى قسمين: الأول توثيقي، والثاني موسيقي. فأوكلت الأول إلى الباحث محمد كريم، المعروف بعلاقته الوطيدة بالأخوين فليفل، إضافة الى حسن اطلاعه على سيرة حياتهما. أما الثاني فأعدّه الموسيقي جورج حرو، لخبرته في هذا المجال، إذ سبق أن قدم أطروحة دكتوراة في "فن الاخوين فليفل"، فقرأ ألحانهما قراءة موسيقية يفصل فيها النوتات ويشرحها ويضعها في إطارها الموسيقي.

كتاب "اللحن الثائر" رحلة في "كشكول" من الأناشيد التي استوطنت آذان الشعوب العربية والجماعات الحزبية وحتى الأطفال. وبحسب الباحث محمد كريم، قبل أن يطلق الإخوان فليفل أناشيدهما الوطنية والقومية في دنيا العرب، مطلع القرن الماضي، كانت الناشئة في المدارس والمعاهد تنشد الأناشيد ذات التوجهات العثمانية التي ترفع الدعاء للدولة السنّية بالعز والسؤدد. وعرفت المجتمعات العربية بعض الأغاني الوصفية التي تتغنى بالوطن بشكل خجول، وتمحورت مواضيعها حول جمال الطبيعة، إلى أن أطلق الاخوان فليفل أناشيدهما ذات المضامين الوطنية والأبعاد القومية. هذه الأناشيد، بألحانها القومية الحماسية أوجدت ما يسميه كريم "حالة من الاستنهاض" في العديد من البلدان العربية، واستطاعت أن "تواكب وتدعم" الحركات السياسية التي قام بها "رجالات البلاد" في المحافل الدولية، حتى بات نشيد "موطني"، الموجه في الاصل الى فلسطين، وكأنه النشيد الوطني للأمة بأسرها.

وفي اربعينات القرن الفائت، بات شباب المعاهد الجامعات واعضاء ما يسمى "الاحزاب الوطنية" يخرجون الى الشوارع العواصم العربية في تظاهرات مطالبين بالاستقلال منشدين بصوت واحد من كلمات بشارة الخوري وألحان الاخوين فليفل: "نحن الشباب لنا الغد/ ومجده المخلدُ". 

قبل ان تكون سيرة الأخوين محمد وأحمد فليفل، رحلة ألحان وموسيقى وأناشيد، تعيدنا حياتهما المدونة في كتاب "اللحن الثائر" إلى حقبة اختلطت فيها الآراء بالروافد وتنوعت، وكان لبنان ما زال لديه ما يقوله. كانت البلاد العربية في مطلع الاربعينات من القرن الفائت حبلى بالأحداث التي تنذر بالانفجار. وسط هذا الجو المشحون بالغضب، وأمام حالة الغليان، عكف الأخوان على تلحين عدد كبير من الأناشيد لشعراء كبار امثال: الاخطل الصغير، ابراهيم طوقان، سعيد عقل، عمر ابو ريشة، معروف الرصافي، امين تقي الدين، شبلي الملاط، سابا رزق، عبد الحليم الحجار وفخري البارودي. وفي مرحلة لاحقة لشعراء اخرين. ولحن الاخوان فليفل مئات الأناشيد الوطنية والدينية والتربوية والبيئية، فضلاً عن اناشيد معظم الاحزاب اللبنانية مثل: الكتائب، الطلائع، الفتوة، المرابطون، الكشاف، والنجادة. من بين الاناشيد التي لحنها الأخوين فليفل نشيد "العروة الوثقى" من كلمات الشاعر سعيد عقل، ومطلعه "للنسور ولنا الملعب والجناحان الخضيبان... بنور العلى والعرب/ ولنا القول الأبي والسماح العربي... والسلاح/ ولنا هز الرماح...  في الغضوب المشمس/ ولنا هزّ الدّني... قبباً زرق السنا/
ولنا صهلة الخيل... من الهند إلى الأندلس".

وهذا النشيد ليس مفاجأة من "العيار الثقيل"، كما يتوهم البعض. وأن يكتب سعيد عقل نشيد "العروة الوثقى"، فهذا من الأمور البديهية، خصوصاً حين نعلم أنه كتب ايضاً نشيد الحزب السوري القومي الاجتماعي. وبعدما دارت الدوائر وانقلبت الأدوار وصار على ما هو عليه من مواقف وأفكار، راح ينكر أنه صاحب النشيدين القومي السوري والقومي العربي، وادعى أنه كان مغرماً بفتاة في "العروة الوثقى" اسمها ليلى طنوس، وأنها كانت تعرض عليه أشعاراً ركيكة وتجادله فيها "الى أن قلت لها: سأريك كيف يُكتب شعر عروبي. وكتبت لها هذا النص الذي أخذته وعرضته على أصحابها فاتخذوه نشيداً للجمعية" (من حديث لسعيد عقل أجراه عباس بيضون في "ملحق النهار"). بعد القومية السورية، والقومية العربية، بدأ سعيد عقل يمجّد الفينيقية اللبنانية التي يبلغ عمرها خمسة آلاف عام، وأغرق نفسه في السياسات اللبنانية و"لبننة العالم بعد بردَنَة (من نهر البردوني) زحلة وزحلَنَة لبنان".

والارجح أن سعيد عقل كان يعتبر الشعر "مهنة"، وربما تكون نظرة الأخوين فليفل الى الموسيقى مهنية قبل كل شيء. فهما لحّنا أناشيد كشكولية متناقضة، من العروبية ("لبيك عبد الناصر" و"بلاد العرب أوطاني") إلى الميليشياوية ("الكتائب" و"المرابطون")، والعربية (النشيد الوطني السوري ونشيد جامعة الدول العربية) وعشرات الأناشيد الوطنية والفلسطينية واللبنانية والعربية والحزبية.

والبارز في مسيرة الاخوين فليفل هو اكتشاف الفنانة فيروز. فغداة اعلان الحكومة اللبنانية الاحتفال بعيد الشجرة في الاول من كانون الأول 1947، كلفت محمد فليفل تلحين نشيد للمناسبة، فجال فليفل على المدارس الرسمية لاختيار التلاميذ الذي سينشدون هذا النشيد. وبوصوله الى مدرسة الإناث الأولى في منطقة حوض الولاية قدمت له مديرتها سلمى قربان تلميذة في الرابعة عشرة من عمرها اسمها نهاد حداد، لفت صوتها انتباه محمد فليفل على الفور وبعد موافقة اهلها، ضمّها الى الفرقة لتتفرّد بصوتها ببيت: "بالشجر يتعالى في الهواء"، والذي صاغه بلحن يتطلب خامة صوتية معينة، إضافة الى المهارة في الأداء. وتبنى فليفل نهاد حداد موسيقياً، وأدخلها الكونسرفاتوار، وعن تلك الفترة يروي قائلا: "اتصلت بوديع صبرا، مدير الكونسرفاتوار آنذاك، وطلبت منه تسجليها على نفقتي، لكن الاستاذ صبرا، سجلها بلا مقابل...". وبعد خمس سنوات من الدرس والتدريب في الكونسرفاتوار اللبناني، وفي منزل آل فليفل، تأكد محمد فليفل أن موهبة تلميذته قد تبلورت وأنه قد آن الأوان لانطلاقها في عالم الفن الرحب. ورأى أن الخطوة الأولى لا بد أن تكون من الإذاعة اللبنانية. في الامتحان الإذاعي غنت "يا ديرتي" لأسمهان، فحظيت بإعجاب الملحن حليم الرومي، واختار لها اسم فيروز. وفي الإذاعة ايضاً تعرفت فيروز الى عاصي الرحباني.

وعلى أهمية ما حققه الأخوان فليفل، ظلمتهما الدولة اللبنانية، ومنعت عنهما مرة شرف تلحين النشيد الوطني اللبناني، علماً أنهما لحنا الكثير من من الأناشيد العربية المعروفة، وهما من وضعا الوزن لقصيدته وللقصائد المرشحة لتكون النشيد. ووسط دهشة واستغراب الأخوين فليفل، خرج الشيخ بشارة الخوري وربّت على كتفيهما قائلا: "أعجبت كثيراً بلحنكما، لكن الظروف حتمت علينا وعلى اللجنة اختيار لحن وديع صبرا لثقافته وكبر سنّه وشهرته في البلدان الأوروبية، أنتما ما زلتما شابين المستقبل امامكما". الظروف التي يتحدث عنها بشارة الخوري فضيحة، تعكس جوانب من معايير السياسة المتبعة في الجمهورية اللبنانية، اذ يغلب عليها منطق المحسوبيات على حساب المواهب، ومنطق الطوائف على حساب الأفراد.

يبقى القول أن ثمة جانب كان ينبغي تناوله في كتاب "اللحن الثائر"، ويتعلق بتحليل كلمات الأناشيد القومية والوطنية والحزبية والبيئية التي لحنها محمد وأحمد فليفل، مع تأويل مضمون هذه الأناشيد وما تحمله من دلالات ثقافية واجتماعية ورمزية...


كتاب "سيرة الأخوين فليفل/ اللحن الثائر"، مع أربع اسطوانات مدمجة تضم 70 نشيداً، تأليف محمد كريم والعميد جورج حرو، وإنتاج جمعية "عِرب" بدعم من مشروع "أفاق"، يطلق خلال حفلة تحييها الأوركسترا الوطنية بقيادة جورج حرو، في قصر الأونيسكو، السابعة مساء السبت 11 تشرين الأول الجاري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها