السبت 2015/07/04

آخر تحديث: 11:26 (بيروت)

نساء لوكليزيو المغامرات

السبت 2015/07/04
نساء لوكليزيو المغامرات
بما يشبه الرثاء العادي كتبت قصة "كلمة"، حيث لا حبكة ولا تأليف قصصياً
increase حجم الخط decrease
لا أعلم إن كان شائعاً في أيّ مكان من دنيا العرب أن تسمّى فتاة باسم "كلمة".
الكاتب ج.م.غ. لوكليزيو جعل ذلك الاسم القليل عنواناً لإحدى قصصه، وذلك بالتساوي مع عناوين لقصص أخرى مثل "سو" و"روزا" و"أليس" وكلها، كما هو بيّن، لنساء. ذاك أن مجموعة القصص هذه تخصصت بهن، هنّ المغامِرات الضحايا، اللواتي لا يلبثن، بعد أن يتخذن قرارهنّ الشجاع الأوّل، أن يبتلين بقسوة الحياة التي لا ترحم. "كلمة" على سبيل المثال، قطعت تلك المسافة البحرية بين طنجة وبلاد الغرب، حاذية بذلك حذو جميع أولئك الذين يجدون المسافة البحرية التي تفصل بين العالمين قريبة وسهلة العبور، لتجد هناك أنها أحكمت الطوق حول نفسها، إذ لا سبيل لها إلا أن تبيع الشيء الوحيد الذي تملكه.

بما يشبه الرثاء العادي كتبت قصة "كلمة"، حيث لا حبكة ولا تأليف قصصياً ولا سياق من النوع الذي يُعتمد في فنّ القص. هي مجرّد مرثية، من ذلك النوع الذي يكتب في دفاتر اليوميات الحميمة حيث المشاعر المتدفّقة هي التي تؤلّف بنية النصّ ونظامه. والغضب واللعنة هما محرّك الكتابة، وهذان لا ينصبّان على أحد، طالما أنّ القوادين الذين استنفدوا جسد "كلمة" حتى آخر رمق، لا يلبثون أن يتحوّلوا إلى ضحايا بدورهم، من لحظة ما تسقطهم الرصاصات من مسدسات الشرطة. أما عاشق "كلمة" وزارع الجنين في أحشائها فسيقضي ما تبقّى من حياته باكيا مقيماً على ذكراها، هو الذي كان باعها للقوادين أولئك من أجل أن يلبي حاجة إدمانه.

في قصة "قلب يحترق" أيضاً، وهي أطول قصص الكتاب وتحتل نصف عدد صفحاته، يتألّف النصّ من الدفق الشعوري التخيّلي ومن الأفكار التي تتوالد متصاعدة على الدوام ساعية للوصول إلى ذروة الكتابة. النساء الضحايا، المغامِرات لمرّة واحدة قاتلة، أوّل ما يفعلنه هو مغادرة المكان الذي يقمن فيه. وكلما كانت المغادرة إلى أبعد كلما ازدادت قسوة الأقدار عليهنّ. بيرفينش لم تمُت مقتولة مثلما ماتت "كلمة"، بل إنها، في نهاية القصة، ترتاح من قواديها وتنجب الإبن في مركز الشرطة. أما كلمة فماتت في المدينة الأوروبية مطعونة طعنات عدة اخترقت الكنزات الصوفية الثلاث أو الخمس التي كانت ترتديها، واحدة فوق الأخرى، اتقاء من البرد.

كلما كان المكان أبعد كانت الوحدة أقسى. لم يستطعن أن يصنعن حياة غير هذه هناك، في البلدان التي لطالما حلمن بها خلاصاً من أرض الفقر والزحمة والغبار. لكنهن هناك، في البلاد التي هربن إليها، لا حاضر لهن، وليس لهنّ مستقبل أيضاً. "تلك السفينة الكبيرة" التي نقلت "كلمة" من ساحة مدينتها ومن الأطفال الذين يركضون متصايحين، ومن النظرات الصريحة، تلك السفينة "لم تسلبك ماضيك فحسب، يا كلمة. لقد أخذت مستقبلك أيضا".

دائما هناك المكان الآخر الذي يحلمن بالإنتقال إليه. في مقابل طنجة هناك مارسيليا، وفي مقابل مكسيكو هناك ميشيغن. بلدان كثيرة تأتي القصص على تسميتها وذكرها، لكنها أمكنة التخبّط والضياع والأحلام المجهضة. في قصة "قلب يحترق" قد تكون من غادرت إلى أميركا هي الأخت، وها هي نجت من مصير التشرّد ما دامت حقّقت حلمها بالإستقرار. لكن رحيلها أصاب أختها إذ كان بين الأواصر الكثيرة التي اقتلعت من حياة بيرفينش.

أما الناجيات فهنّ مثل "روزا" التي أهدت حياتها لسواها، "في السن التي تبحث فيها الفتاة عن زوج، كانت روزا تبحث عن الأطفال المشرّدين. فقامت بإيواء عشرة منهم، عند سافلة الطريق، فعشرين، ثم خمسين". أما أليس فكانت العزلة القصوى مكمن قوّتها بعد أن "استنفدت طاقتها في مساعدة الصغار الرافلين في بؤسهم، والنساء المهجورات، والكلاب التي تنفق من الجوع.. والمريضات بالسرطان". "لقد اختارت ألا تتبرّم من مصيرها، ولو لبرهة من سعادة".


-"قلب يحترق وقصص أخرى" كتاب ج. م. غ. لوكليزيو صدر في 2014 عن دار التنوير ودار الأمان بترجمة عبد الرحيم حزل في 158 صفحة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها