الخميس 2015/04/09

آخر تحديث: 13:54 (بيروت)

بارات المدن.. ما تبقى من أرواح العابرين

الخميس 2015/04/09
بارات المدن.. ما تبقى من أرواح العابرين
اندهش من أنه يشارك، في هذه اللحظة، مرحاضًا ضيقاً، مع أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
-1-

في المدن العربية، التي لا تستحلى السهر، ستستمتع كثيرًا بالجلوس على رصيف مقهى نظيف، وأنت تتفرج على المارة. لن تستطيع، في الغالب، الحصول على كوب من الشاي الأحمر بسهولة. هناك شيء ما يربط هذه المدن، أكثر، بالقهوة "عذراء الصباح الصامت" بتعبير محمود درويش.

والذين يأتون إلى هذه المدن من أحباب الليل، يأخذون يومًا أو اثنين في التنقيب عن وسائل وأماكن السهر، حتى يستريحوا مع الأجواء، ويستمتعون شيئًا فشيء بحالة النهار. غير أنه لا بد من سهرتين أو ثلاث، حتى ساعة لن تكون متأخرة من الليل، تٌكوّن عبرها بعض الذكريات وصور من المدينة.

في نهايات 2012، كانت رحلة بديعة إلى العاصمة التونسية. وكان الانطباع العام أن البارات في تونس، تشبه، بشكل ما، الشقق التي تم تشطيبها للتو، استعدادًا لاستقبال زوجين جديدين.. قال الأصدقاء هناك إن "البار" كلمة تطلق على الأماكن التي تحمل بُعدًا شعبويًا، غير أن السهرات الحُلوة تكون داخل مطاعم يُصَرح فيها بتقديم المشروبات التي نحبها. إلا أن المطعم الأنيق الصغير الذي أخذونا إليه، كان يحمل كثيرًا من مواصفات بعض بارات القاهرة ما عدا السهر لوقت متأخر بالطبع. عرفنا أن هذا المطعم المشهور بمأكولات البحر، مع صغر مساحته، كان المكان المفضل للعشاء لدى الشاعر محمود درويش والمخرج يوسف شاهين عند زيارتهما للمدينة. وأن الـ"ماجون" أكثر أنواع النبيذ انتشاراً هناك، كان الشراب المفضل لصاحب "الجدارية".. وكنت شربت منه الكثير، لكنني حرصت على أخذ زجاجتين، من باب الاحتياط.

لأن الأماكن تكسب أيامها بأرواح الذين مروا عليها، أو تخسرها بأرواح مارة آخرين.

-2-

يحكي إرنست همنغواي في كتابه الفاتن "وليمة متنقلة"، عن أيام الفقر، وأربعة أعوام قضاها في باريس متنقلًا بين أكثر من سكن، يخلو بعضها من دورة مياه، وبين بارات العاصمة الفرنسية: "طلبت شراب الرَمّ. كان له مذاقًا رائعًا في ذلك البرد، وواصلت الكتابة. دخلت فتاة وجلست وحدها إلى طاولة قرب النافذة. كانت جميلة جدًا ولها وجه عذب طري يتألق مثل قطعة نقد ضربت حديثا، إذا كانوا يضربون النقود من بشرة ناعمة نضّرها المطر، وكان شعرها مقصوصًا بشكل مائل حاد على خدها. نظرت إليها فشوشتني وأثارتني كثيرا. وتمنيت أن أضعها في القصة أو في أي مكان آخر، ولكنها وضعت نفسها حيث يمكن أن تراقب الشارع والمدخل، فعرفت أنها في انتظار شخص ما. ولهذا فقد واصلت الكتابة".

-3-

وقف أحدهم يترنح قليلًا، ونظر إلى "المبولة" القديمة بشيء من القرف. اندهش من أنه يشارك، في هذه اللحظة، مرحاضًا في منتهى الضيق، مع أسماء من قبيل أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم، وغيرهم ممن يحملون أسماء كهذه، كانوا ذات يوم مارة على بار "ستيلا" بعَطَنه وضيق مساحته، ليصير واحدًا من أشهر بارات العالم العربي التي ارتادها المثقفون.. شيء ما في "البارات" يساعدها على الاحتفاظ بروائح العابرين عليها أكثر بكثير من المقاهي. وها هو مقهى "زهرة البستان" أيقونة الستينيات، لم يتبق منه غير لا فتة تحمل عبارة "ملتقى الأدباء والفنانين".

ولأن القاهرة ليست من مدن الصباح، يلعب موعد الإغلاق دورًا كبيرًا في اختيار البار الذي ستقضي فيه ليلتك.. لذلك، لن تستطيع، أبدًا، داخل محيط وسط المدينة، أن تتعامل مع بار بوصفه شعبوياً، أو آخر باعتباره أكثر أناقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها