ليالي المدن: الشارقة بين صَخَبين

الشارقة واحدة من مدن الليل بتصرف، أو لنقل أول الليل. لا سهرات من العيار الثقيل، ولا نهار يحمل إليك فرصة الفرجة على الرايح والجاي. ظهيرة مزدحمة بسيارات العائدين إلى منازلهم، مساء مناسب تماماً لهواة الجلوس في الشرفات أمام أكواب الشاي الأخضر وأطباق المكسرات، أو احتساء قهوة تركية معقولة في مقهى شعبي يطل على البحيرة، ولا يقدم الشيشة. إن انتهت سجائرك، لن تجد غيرها إلا في محال قليلة لديها رخصة بيع الدخان.

هي تلك المدينة الملتفة حول بحيرة تليق بالتمشية في أيام الطقس الحسن. ستستمتع بها العائلات، وتأمن على أطفالها تماماً. أحد الأصدقاء الآتين معي من مصر، تسمّر مكانه ثلث ساعة تقريباً خوفا على طفلة، تركتها أمها على أريكة حجرية بإحدى الساحات حتى تأتي بشيء. لا تريد اصطحابها لعبور الشارع الواسع. جلست الطفلة دقائق قبل أن تقوم للعب في محيط الأريكة، صديقي يراقبها وينتبه كلما مر أحدهم بجانبها، غير أن ظنه خاب. لم يحدث ما يخيف البنت حتى جاءت أمها بملامح مطمئنة تماماً.

الساحة التي تركت فيها الأم طفلتها، تقع أمام مدخل مركز إقامة المؤتمرات "إكسبو".. حيث بدأ مهرجان الشارقة القرائي للطفل. عدد كبير من دور النشر وافتتاح قام به الشيخ سلطان القاسمي حاكم الإمارة، وحفل إطلاق هيئة الشارقة للكتاب برئاسة أحمد العامري. جاء عدد من وزراء الثقافة، وبعض المثقفين المهتمين بثقافة الطفل، وجاءت الفنانة المصرية لبلبة لتشد وتر النوستالجيا بأغاني أحبها الأطفال وتذكرها الكبار.

أبناء آخر الليل، لن يتحملوا هذا لفترة طويلة، سيستمتعون باحتساء الشاي والقهوة والدردشة الليلية على ضفاف البحيرة، قبل أن يجدوا حيلة ما للفرار إلى قلب المساء، ذلك أن هدوء الشارقة يقع بين صخبين كبيرين. إمارة عجمان من ناحية، ومن الناحية الأخرى تقع دبي. الأولى فيها شيء من مدن الساحل الشمالي لإفريقيا، بيوت متوسطة الارتفاع تطل على شاطئ ممتد. غير أنها مدينة تصلح للسهر القريب جداً من مياه البحر، الفنادق المتوسطة بباراتها التي يصل رذاذ الموج إلى طاولات بعضها. مدينة يحمل ليلها شيئاً من البساطة المحببة إلى النفس، هو صخب متوسط المدى، وسهرات تستطيع النوم بعدها بسهولة.. بينما تقف، على الناحية الأخرى من الشارقة، مدينة دبي أو قصيدة محمد بن راشد كما يسميها صديقي الشاعر كمال عبد الحميد. بصخبها الذي تمتد آثار ليلة بداخله أياماً عديدة.

تسير بك السيارة بمحاذاة بحيرة خالد التي تلتف الشارقة حولها، قبل أن تنحرف يمينا ويسارا لتعبر أحد الجسور، ثم تشعر بالفرق الكبير بين الليلين. لن ينسى سائق التاكسي، أي سائق، أن يحدثك بمجرد الدخول إلى حدود دبي، عن الانبهار الذي يصيب الجميع بهذه المدينة التي تجمع أغلب جنسيات العالم، وعن حرية مطلقة يتمتع بها الزائر أو الساكن، طالما لم يتعد على حرية الآخرين. في الزيارة الأولى لم أحب دبي بانطباع أولي عن مدينة تغالي في محاولة الإبهار، تساءلت عما يمكن امتلاكه غير المال لإقامة مبان فخمة عالية خالية من الروح، غير أن الزيارات المتكررة عالجت الأفكار، وتحدثت المدينة عما تمتلكه من محبة مفرطة للحياة وتوفير ما يريده البشر من أوجه للمتعة والترفيه، على اختلاف متع واحتياجات هؤلاء البشر.. حدثني كمال عبد الحميد، عن كتاب لشاعر هندي عن الشعراء الذين انتحروا بعد ما عاشوا في دبي لفترة! نعم.. هي مدينة تعصفك داخلها، حتى يرى البعض أن أصحاب الحساسية لا يستطيعون إلا أن يعيشوها أو سيتجهون للانتحار.