السبت 2014/11/29

آخر تحديث: 15:07 (بيروت)

صوت من التفاح والندى والشمس والحرير

السبت 2014/11/29
صوت من التفاح والندى والشمس والحرير
صوت ما بين الجبل والساحل
increase حجم الخط decrease
في صوت صباح الشمسيّ شمسٌ، هي شمسُ لبنان البهيّة الساطعة، بعد مطر ربيعيّ، على الأعالي والتلال والشطآن، عندما كان في لبنان متسع للاستمتاع بشمس الأعالي والروابي والشطآن. شمسٌ برونزية ليّنة، أو شقراء اللون، شَربِها صوت جانيت فغالي في بدادون ووادي شحرور، ما بين الجبل والساحل، في القرى المسيحية التي أخذت البهجةُ اهلَها، العامّة من اهلها، وهم يغادرون او يخرجون، بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وويلاتها ومآسيها، من قسوة "ليل" الإقطاع والزمن العثماني، ويهاجرون الى اميركا وبيروت، وقبلهما الى مصر، حالمين بالحرية.

في اواسط اربعينات القرن العشرين، عندما هاجرت مع والدها من بدادون ووادي شحرور الى القاهرة - أولى مدن المشرق العربي الكوزموبوليتية المتحررة من الزمن العثماني، والمزدهرة فيها فنون الغناء والسينما والمسرح، بعد تأورُبِها مع الاسكندرية، بأخلاط الجاليات الاجنبية الكثيرة - حملت جانيت فغالي، الصبيّة الصغيرة المولودة في العام 1927، صوتها الشمسي ذاك كوجهها، لتبيع في القاهرة ذلك الدلع الشعبي المتفتح في وجوه وأجسام واصوات صبايا لبنان العاميّات. وهو دلع تحدر اليهن من مزيج التقاء "الحضارة" الجبلية بالريف الساحلي. دلع أو غنج شعبي ساذج، بدائي في فجاجته العلنية، كتفاح لبنان المشرب بشمس الاعالي، بعد سبات الصقيع الشتوي. وهو ايضاً غنج الصبايا الريفيات المسيحيات في مواسم الحرير، المفتونات بتجار الحرير الجدد المتنقلين بين قرى الجبل ومدن والساحل. لهؤلاء غنّت "شحرورة الوادي"، لاحقاً: "ان كان بدك (تريد) تعشق/ إعشق تاجر بالحرير... يا قلبي كتير/ كثير كتير/ بدك تنطر (تنتظر) تاجر الحرير". كانت مواسم الحرير وتجارته قد أفلت تماما، عندما غنّت صباح هذه الاغنية في مطالع الستينات اللبنانية المزهوّة برخاء تمدّنها الريفي الساذج، المبتهج ابتهاج النساء وأجسامهن بفساتين الدكولتيه الحاسرة عن الكتفين المرتفعين، وعن ما دون الركبتين من الساقين المرتفعين أيضا بزوج من سكربينات الكعب العالي.

لكن صباح لا تنتظر، ولا تحب الانتظار، على خلاف فيروز التي جعلها الاخوان رحباني نجمة الحزن والانتظار، المرصودة في محراب الحزن والانتظار. 
فصباح لم يصنع احد نجوميتها، بل هي وحدها وبنفسها ومنفردة، صنعت تلك النجومية بين القاهرة وبيروت. في قاهرة السينما الاستعراضية والغناء في الاربعينات والخمسينات اولاً، وفي بيروت الربع الثالث من القرن العشرين (1950-1975)، تالياً وفي آن واحد.

في صوت صباح شيء من فجاجة تفاح الجبل النديّ، المتلألئة على فجاجته حبيبات الندى البلورية في شمس الصباح المنتشية بالفضيحة الريفية في المدينة التي لا تزال مفتونة بالريف. صوت من التفاح، من فضيحة التفاح والندى والشمس والحرير. من صفاء الماء الصخري، المنبثق من الصخر عارياً، فجّاً، جريئاً في عريه، من دون أن يخفي شيئاً، ولا يخجل من شيء. ولا حتى من دعوته الأنثوية الفجّة، الصريحة، العارية، اللاهية، المقهقهة عالياً في طلب المتعة والانتشاء بالنفس، وفي تقاسم المتعة والنشوة العابرين مع آخرين. صوت يندلق، لا من عمقٍ ولا من داخل ولا من سرّ، بل من البهجة الآنية العابرة المتجددة، أنانيةً وغيريّة في وقت واحد، وبلا تمييز. بهجة تحتفي بنفسها، لا لتخفي الألم، بل لتنبذ الألم والحزن. بهجة عمومية مجانية لا تنضب، ولا يعتريها خوف من النضوب.

من ذلك الصوت الشمسي المغناج، ولدت صباح، ولدت شخصيتها النجومية، وجهها، جسمها، وادوارها السينمائية، حينما كانت السينما تمثيل وأداء خارجيين اقرب الى الاستعراض والزهو بالازياء والابتهاج الاحتفالي بها، من دون تمييز بين الادوار والصور والحياة والسينما. 
هي قالت انها تزوجت رجالها الكثيرين كما يتزوج الممثلون في الافلام. لذا يمكن القول انها عاشت حياتها كلها، كانها في فيلم.
هو صوتها الشمسي المغناج من صنع حياتها وشخصيتها وقدرها النجومي، وأخذها الى القاهرة، الى السينما، الى رجالها. 
صوتها هو حقيقتها وطبعها، في زمن كانت الأصوات فيه تُعطى من الطبيعة البكر، وتطلع من الطبيعة البكر. كما كانت الاصوات  تَصنع الطبائع، قبل أن يتحول الغناء رقصاً وبالصور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها