الخميس 2014/10/30

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

من ناصر الى السيسي: بالأحضان.. وإعادة إنتاج السلاطة

الخميس 2014/10/30
من ناصر الى السيسي: بالأحضان.. وإعادة إنتاج السلاطة
كنا نسمع أغاني الناصرية في المناسبات بعد أن يحذف منها ما يخص ناصر، ويُحتفظ بما يناسب "الرئيس المجرد"
increase حجم الخط decrease
لم نعش الخمسينات والستينات. لم نعاصر صعود دولة عبد الناصر بما لها من انتصارات وإنجازات، وصولاً إلى انكسارها وسقوطها. لم نسمع أفضل مطربي العرب يهدونه ولحظاته التاريخية الأغاني الملحمية، في مسارح عاصمته. ولم نعاصر سلاسل الأغاني الموسمية، ذات الجودة العالية عادة، والتي كان يهديها إليه مغنّيه المفضل والمعبر الأفضل عن عصره، عبد الحليم حافظ، مستعيناً بكتيبة من الشعراء والملحنين والموزعين الموسيقيين الكبار، في بلد بدأ في رعاية الفنون، وبالذات الفنون التي تدعم "المعركة" كما يراها النظام، وتدعم فكرة هذا الوطن العربي الكبير الذي يتحرر ويكبر ويسود.

نحن جيل ولد بدايات السبعينات، ولدنا مع الانكسار والنصر الساداتي المزيف. ومع الانكفاء التام عن التجربة الناصرية، الاحتفاظ بمساوئها وتطويرها، وتدمير إنجازاتها على كل المستويات. تراجع وانهيار أكمله مبارك ببراعة في عصره الطويل الممل.

كنا نسمع الأغاني الوطنية، والثورية على الطراز الناصري، في المواسم والمناسبات فقط، بعد أن يعاد تركيبها ليحذف منها ما يخص ناصر، ويتم الاحتفاظ بما هو يناسب "الرئيس المجرد".. الحالي طبعاً، بعد تركيب صور جديدة عليها لتناسب من لديه السلطة في اللحظة المعنية. كانت مقصات الرقابة، قبل زمن الإنترنت المفتوح، تتدخل كي تحذف الجمل التي لا تناسب العصر الجديد، ولم تحتفظ بها ولو على سبيل الفولكلور. فعلى سبيل المثال أغلب جيلي ممن دخلوا مرحلة النضج أواخر الثمانينات، يعرفون أغنية "ابنك بيقولك يا بطل هاتلي النهار.. ابنك بيقولك يا بطل هاتلي انتصار". لكنهم لا يعرفون إحدى جملها التي حذفت: "ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار"، وباتت بذلك تناسب المرحلة الساداتية المباركية ودخول الأميركيين للديار من الأبواب المفتوحة الواسعة.

حصلت ثورة يناير. جاء المجلس العسكري، ورحل. وأتى الإخوان، ورحلوا. وجاء "ليبقى" الجنرال السيسي، ولتفتح من جديد ماسورة الأغاني الوطنية المستعادة من الأرشيف التلفزيوني والإذاعي المنهار. فهي مرحلة المعركة القومية والوطنية الجديدة، والانتصارات العظيمة على يد المخلص الجديد الذي يستعيد زمن عبد الناصر، لكن بمحمد حسنين هيكل العجوز، أو بمشروع قناة السويس التي حفرت وأممت واحتلت وتحررت بالفعل، أو بمشروعات التبرع تحت هتاف "تحيا مصر"، أو بأوهام الأجهزة الطبية التي ستعالج فيروس سي، والإيدز، بصوابع الكفتة.

سمعت أغنية "بالأحضان" عشرات المرات.. أغنية تناسب في جودتها الأسماء الضخمة التي تقف خلف إنتاجها، فكلماتها للشاعر صلاح جاهين، ولحنها للموسيقار كمال الطويل بمناسبة عيد الثورة العام 1963. لكني لم أتوقف أمامها بتركيز، سوى من بضعة أيام، مكتشفاً أنها تكاد تكون أغاني عدة، لا أغنية واحدة، ومتأملاً أداء عبد الحليم على خشبة المسرح، وهذا "الكشري الأيديولوجي" المتضمن في الأغنية.


تبدأ بجزء مَشاعري عن هذا "السواح المتغرّب"، دون أن نعرف إن كان مغترباً، أي يعيش خارج الوطن، أم أنه يعاني الاغتراب. لكنه في كل الحالات يشفي من غربته/اغترابه ويعود لوطنه/بلاده المسمى بالأم التي يحبها وينتمي إليها. فحين يبتعد عنها قلبه، يقترب أكثر. ولأنه منتسب فهو يسمع أوامر الأم.. "وبأمرك أشعلها نيران". النيران المقصودة، والمطلوب فهمها، وبالذات في اللحظة الحالية، هي النيران ضد العدو الخارجي، وليست نيران داخلية. فنحن حالياً في زمن عبادة السلمية.

يبتعد "المغترب" تدريجياً عن الهيمان المشاعري، وعن الكتابة التجريدية التي سادت في بداية الأغنية ليبدأ في الدخول إلى الواقع، في اكتشاف أن الوطن عظيم وقد كبر ولم يعد يخجل منه.. فهو يمشي فخوراً به وبإنجازاته بين الناس. لا تسأل هنا من هم هؤلاء "الناس".. هل هم أجانب؟ شعوب أخرى؟ ألم يعد المغترب إلى الوطن؟ وإن كانوا أهل وطنه فلماذا يفخر بينهم؟ فليفخروا جميعا!! وهنا تحدث القفزة الأولى الضخمة باتجاه الجزء الثالث، لنكتشف أن سبب كل هذه "العظمة" هو أن: "زعيمك خلاكي زعيمة.. في طريق الخير والعمران".

ولأن صلاح جاهين لم يكن من المطبلاتية المجانيين لناصر، بل كان مقتنعاً بصدق بإنجازات الناصرية واكتشف أنه خدع مع هزيمة 1967، ودخل من لحظتها في حالات اكتئاب مزمنة حتى وفاته، كتب خلالها نصوصاً من أفضل أشعاره وأكثرها حزناً... فهو لا يمجد الزعيم لمجرد التمجيد، بل يعدد بعض إنجازاته. المصانع، المزارع، المدائن، العمل، الجهد، الكفاح، النضال السلمي.. إلخ.

وتفاجئنا هنا القفزة الثانية.. من الوطنية المشاعرية إلى "الشعبية". أداء "شعبي" على مستوى الكلمات والموسيقى. والرجاء عزيزي القارئ ألا تكن متعسفاً وتسميه أداء "شعبوياً".. فاتهامات الشعبوية يطلقها عادة المثقفون المنعزلون. فقط تأمل هذه الجملة الشعبية بامتياز "نور عيني وحبايبي.. وعزاز قوي علي قلبي".. فتشعر وكأن عبد الحليم قد تحول فجأة إلى الفتى الشعبي الواقف على ناصية الحارة متغزلا في حبيبته "الشعبية/الشعب". بالطبع ينهي المرحلة "الشعبية" من الأغنية بـ"يحيا الشعب" كصرخة وهتاف تحدٍّ وخلود. والخلود هنا ليس فقط للزعيم بل هو أيضا للشعب.

ومن الشعبية يقودنا المؤدي في قفزة جديدة وأخيرة. كنا في منطقة الشعب.. ولأننا شعب "متدين بطبعه" مثلما يقول السياسيون الحاليون بمناسبة ومن دون مناسبة، ندخل من الشعبية إلى الدينية.. إلى الدعاء!! لكنه دعاء "مودرن"، دعاء ثوري أكثر، لا ينطلق بمناسبة عيد الأضحي أو الفطر، بل هو بمناسبة عيد الثورة. يتحدث عن النضال والكفاح والأقدام الثابتة. ورغم كونه دعاءً ثورياً، إلا أن الكورس يردد كلمة "آمين". وصولاً للأهم.. صرخة جبارة أخرى "واحفظ ريسنا وبطلنا". تتوقف هنا الأغنية والموسيقى، يستمر عبد الحليم في "خشوعه الديني الوطني الثوري" الكامل والمقدس، كي يصفق الجمهور بعنف عندما يكون الدعاء بأن يحفظ الله الزعيم. ويتكرر هذا المقطع كاملاً، وبالأداء نفسه، مرتين، وبصمته التصفيقي، ليختتم الأغنية.

كوكتيل ناصري من إنتاج 1963!! تنويعة من الركائز الأساسية للأيديولوجيا الناصرية في أغنية واحدة!! ثورة، وطن عظيم، أصبح أعظم بفضل قائده وزعيمه العظيم، الحرب والنضال، الخطاب الشعبي/الشعبوي، إنجازات اجتماعية واقتصادية، الخروج من الاغتراب، اكتشاف الوطن والوعي به وبعظمته عبر الزعيم، والدين والاتكال في النهاية على الله. هذا الكوكتيل أو السلاطة أو طبق الكشري.. كان من السهل هضمه في الخمسينات والستينات. فقد كانت فترة إنجازات على عدد من المستويات، مرحلة بناء اقتصاد وطني، صعود المشروع القومي، وضف على ذلك مكانة عبد الناصر الخاصة في الوجدان العربي والمصري لأسباب كثيرة من ضمنها وطنيته ونزاهته وشجاعته.

لكن هذه "السلاطة" صعب هضمها مع السادات، إلا أنه استخدم مفرداتها نفسها بسبب فقر نظامه من الأيديولوجيين والفنانين القادرين على انتاج سلاطة أيديولوجية بديلة – وهو الفقر الذي تطور وتصاعد في العصور التالية - فهو بطل الحرب والسلام والرئيس المؤمن. فتتحول الأغنية/الملحمة إن وضعت معها صوره إلى كوميديا.

وهذه الكوميديا تلقفها مبارك في مرحلة الانهيار الكامل، فتحولت إلى مسخرة، بملله وجهله وبافتقاده هو وعصره ودولته لأي ملامح سوى ملامح الانهيار الكامل.

ماذا عن السيسي؟ أنصاره يشبّهونه بعبد الناصر. يمجدونه باعتباره سيعيد الأمجاد مثل ناصر، ويتجاهلون انهيار مشروع ناصر نفسه، وغياب أي ملامح مشتركة بين المرحلتين أو بين الرجلين. لكن.. كلاهما أنقذ الوطن. ناصر أنقذه من الاحتلال والملكية والفساد. والسيسي أنقذه من "الثورة الزفت اللي خربت البلد". وفقط عبر الاثنين، ومن خلالهما، يستطيع المواطن أن يكتشف وجود الوطن، ويكتشف "عظمته". وكأن الوعي بالوطن مشروط بالوعي بالفرد الزعيم وتمجيده.

حارب عبد الناصر على جبهات كثيرة، وانتصر أحيانا بفضل الصمود الشعبي. أما السادات فقد حارب في أكتوبر ليتصالح. وحارب مبارك الإرهاب الذي قتل سلفه وأرسل قطاعاً من الجيش المصري ليكون تحت أمرة الأميركيين للمرة الأولى في حفر الباطن 1991. وبالمناسبة كان السيسي الضابط الشاب وقتها من ضمن هذا القطاع.

ماذا عن حروب السيسي؟ هو يجمع كل هذه الحروب سوية. يحارب الانهيار، المتآمرين من العرب، يستعيد سيناء، يحارب الإرهاب، ويحارب رمزياً وإعلامياً الأميركيين.

الدين مكون أساسي من مكونات السلاطة الخطابية للعصور الأربعة. لكن الرئيس الحالي يطور المكون الأخلاقي بعيداً من انفتاح عبد الناصر النسبي، لينتج خليطاً جديداً من السادات ومبارك، مع بعض التزمت الأخلاقي والديني. لا يبدو أنه أكثر وعيا وثقافة دينية من مبارك، لكنه ملتزم بقصص أخلاق القرية والعائلة التي استخدمها السادات.

هو الكل، فتتحول السلاطة البلدي ليس فقط لسلاطة أيديولوجية، وإنما إلي سلاطة أزمنة وعصور مختلفة.

أما خصومه فلا يرونه ناصر. يرونه أقرب إلى عبد الحليم، بهذا الأداء العاطفي المسرحي، وبخطابه الذي لا يتجاوز حدود "بحبكوا قوي، انتوا في قلبي، لو أقدر أجيب حتة من السما عشانكم هاجيبها.. إلخ". ونحن شعب يحب عبد الحليم. وربما نكون من عشاق "العاطفية السياسية".

المغترب العائد لبلاده/لأمه في عهد عبد الناصر سرعان ما هرب منها في عهد السادات، ليتشرد في بلدان النفط. وليتشرد أكثر أيام مبارك إلى أي مكان والسلام، وفي عهدي الإخوان والسيسي أصبح يركب قوارب الموت ويغرق في البحر المتوسط.

أما الباقون فعليهم التبرع لصناديق الرئيس. عليهم أن يبادلوه الحب ويصدّقوه ويشتروا أسهمه التي لا يعرفون عن شروطها أي شيء، لبناء مشروع ربما يكون مبنياً بالفعل. يسمعون الأغنية المستعادة.. وفي اللحظة التي تتدفق فيها المشاعر الوطنية الملتهبة، ويكاد هؤلاء أن يلمسوا الزعيم ويحضنونه في قلوبهم مثلما تقول الأغنية تنقطع الكهرباء!! تبرد المشاعر وتغيب الأغنية وتبدأ رحلة الإظلام اليومية المتكررة في هذا الوطن العظيم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها