الخميس 2015/05/28

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

"الرجل الخراب"... عذاباتُ رُوحٍ شرقيّةٍ

الخميس 2015/05/28
"الرجل الخراب"... عذاباتُ رُوحٍ شرقيّةٍ
بل الرواية يقف في منطقة وسطى بين حضارتيْن مُتضادتيْن، وظلّت روحُه تتأرجح ممزَّقةً بينهما
increase حجم الخط decrease

ليلى أبو العلاء، وأمير تاج السر، وحمّور زيادة، وعبدالعزيز بركة ساكن، واستيلا قاتيانو، ومنصور الصويم وسارة الجاك هم نخبة من أبطال المشهد السردي السوداني المعاصر الذين يخوضون الآن مغامراتهم السردية بروح إبداعية شفيفة. إذْ نلفيهم يلوذون بثراء ذاكرتهم الجماعية، وتنوّع مفردات المعيش السوداني، سبيلا إلى إخصابِ مُتخيَّلاتهم التي يصوغونها في إهاب حيواتٍ ومصائر محمولة في قصص وروايات لا يمكن معها إلا الإقرارُ بأصالتها وبقدرتها على رفد المشهد السردي العربي بنماذج إبداعية مائزة. وتُعدُّ رواية "الرجل الخراب" لعبدالعزيز بركة ساكن(*) عيّنة لتلك النماذج المُمَثِّلة لحيويّة السرد السوداني. إذْ يتجلّى فيها وعيُ صاحبها بوظائف الكتابة وبأدوار الكاتب في تحرير الفعل الإبداعي من الأسيجة التقليدية الحاكمة لتصوّرات الناس عن العالَم، وحَفْزِهِ على التوغّل في المناطق المظلمة من ذاته الحضارية وتعرية ما فيها من وَهنٍ وخرابٍ ثقافيَيْن.


رحلة الحكاية
توزّعت رواية "الرجل الخراب" على أحد عشر فصلا، وقد انصبّ السردُ فيها على حكاية مواطن سودانيّ من أمّ مصريّة، اسمه حسن درويش، كان انتمى في شبابه إلى تيّار سلفيّ مصري ثمّ ارتدّ عنه. وبعد إنهاء تعليمه الجامعي عمل صيدلانيا وأحبّ فتاة من بلدتِه. وفي أثناء عمله زاره حريف طالبا دواءً يساعده على النوم، واغتنم الفرصة ليقترح على درويش الهجرة إلى أوروبا حيث ينتظره مستقبَل زاهر مع تنبيهه إلى أنّ "الأمر صعب جدا، ولكنّه سهل لشاب شجاع ولديه طموح". ولأنّ الهجرة إلى أوروبا تمثّل حلمَ كلّ شابٍ عربيّ يعيش ظروفا مادية صعبة رغم ما فيها من مخاطر، فقد وجد الاقتراحُ هوًى في نفس درويش، وقَبِلَ تجريبَ حظّه في السفر إلى أوروبا بمعونة وسيط دلّه عليه ذاك الحريف المنتمي إلى شبكة كبيرة مختصّة في الهجرة غير الشرعية بمقابل ماليّ. وبتوجيه من الوسيط "السوري" ترحّل درويش من مصر إلى النمسا مرورا باليونان وبعض بلدان أوروبا الشرقية في سفرةٍ بريّة شاقة ومليئة بأحداث الخوف واللذّة معا، خاصة ما اتصل منها بتعرّفه تلك الشابةَ الرواندية الجميلة "ناديا" الهاربة من بَدْوِ سيناء الذين مارسوا معها الجنسَ وانتزعوا منها كليتَها مقابل الإفراج عنها، وهي التي سترافقه بجراح روحها، وعذوبة جسدها، ومرارة حكايتها التي سترويها له وهما جنبا إلى جنب في قفص بأسفل الشاحنة الكبيرة المخصّصة لنقل الخنازير التي حملتهما من اليونان إلى النمسا. وبوصوله إلى هناك، استغنى درويش عن اسمه واختار له اسم "هاينرش" حتى يسهل عليه الاندماج في المجتمع النمساوي بينما اندمجت ناديا في مجتمع الموسيقى والسهر الليليّ. عمل درويش لدى امرأة معاقة اسمها "لوديا شولز". ثم إنّ موتَ تلك العجوز، وتَرْكَها له كثيرا من الميراث، إضافة إلى تأخّر حصوله على الإقامة، كلّها أمور أجبرته على الزواج بابنتها المشرَّدة "نورا شولز" لينجب منها بنتا منطوية على نفسها تسمى "ميمي" وهي التي ستُغْرم بعد علاجها النفسيّ بصديقها اليهودي "توني" وتدعوه إلى البيت ليفتضّ بكارتَها بحضور والدها الذي قبل الأمر على مضض لأنه "يخاف من ردود أفعال زوجته وابنته، ويثق تماما بأنهما قد لا تتردّدان في رميه في الشارع في أية لحظة، بعيدا عن البيت الذي يمتلكه هو وحده، وهذا ليس مجرّد تخيل منه، ولكنّه حدث بالفعل قبل خمسة أعوام"، وهو الأمر الذي جعله يؤمن بحقيقة تلك المقولة الشهيرة حول مَن لهم أولوية الحماية في أوروبا، وهم "الأطفال أولا، ثم النساء، ثم الكلاب إذا كان بالبيت كلب، أو القطط في حالة عدم وجود الكلب، ثمّ الرّجُل". وعلى وقع هذه الحقيقة، ورفضا منه ضمنيا لحادثة أن يختلي شابٌّ بابنته في بيته، تنامى نفورُ هاينرش (درويش) من توني وكرهُه له خاصة لمّا أعلن هذا الأخير إسلامَه، إذْ ظنّ الأب أنّ إسلام توني ليس إلا خدعة منه لترحيل ابنته إلى مناطق التوتّر بالعراق وسوريا وأفغانستان لتمارس جهاد النِّكاح "تماما كما حصل للفتاة الرواندية ناديا من قبل البدو في الصحراء المصرية". ولتخفيف هذا الخوفَ من الآتي، ظلّ هاينرش، الذي أُغرم بقصيدة "الأرض الخراب" للشاعر توماس ستيرنز إليوت (1888-1965)، يردّد باستمرار مقطعَها القائلَ: "أنتَ يا من كنتَ معي على السفن في ميلايْ/ تلك الجثة التي زرعتَها العام الماضي في حديقتك/ هل بدأت تنبت؟ هل ستُزهر هذا العام؟ أم إن موجة البرد المفاجئة قد أزعجت مرقدَها/ آهٍ، فلتُبْقِ الكلب بعيدا عنها/ ذلك الصديق للإنسان/ وإلا سينبش بمخالبه ليخرجَها من جديد".

في الأخير ينصاع هاينرش لرغبة رواية "الرجل الخراب" وينتهي من مغامرة هجرته إلى النمسا، وما عاشه خلالها من عذابات روحية واجتماعية طيلة عشرين عاما، مقتولا في غابة من غابات المدينة من قبل زوجته وبمباركة من ابنته وخطيبها وفقَ ما ورد في اعترافيْهما بخاتمة الرواية.


كتابةُ الهجرة
ما يميّز رواية "الرجل الخراب" أمور فنيةٌ ودلاليةٌ عديدة منها صفاءُ اللغةِ الساردةِ واكتفاؤها في أغلب الأحيان بعُمدتِها، ووضوح رُؤيةِ المؤلِّفِ الحضاريّة، وتنويعُ أنماط الرؤية عبر التناوب السلس بين الكاتب والراوي في فعل الحكي، واكتمالُ ملامح الشخصيات، وخفّةُ إيقاع المرويّاتِ. وهي ميزاتٌ فنيّة حمت الروايةَ من كلّ ترهُّلٍ سرديّ، ومنحتها القدرة على الانصباب على جوهر أهدافها دونما تلكؤٌ أو مواربةٌ. يضاف إلى ذلك خروجُ "الرجل الخراب" على عمود الرواية التاريخية التي افتتن بها الروائيون العرب المعاصرون، وانصبابُ جُهدِها التخييليّ على توصيف الراهن العربي وتفكيك مظهر من مظاهر تأزّمه الثقافي ممثَّلا بالهجرة غير الشرعيّة، وما يعتور المهاجر إلى بلاد أوروبا من هَوانٍ ومذلّةٍ وانسحاقٍ أمام ثقافة بلدِ الإقامة. وفي هذا الشأن، لا نعدم توفُّقَ الروائي في تعرية واقع الهجرة والمهاجر معًا عبر شخصية بطله حسن درويش؛ إذْ نلفيه يحرِصُ على تأكيد أنّ هجرة أغلب مواطنينا العرب إلى أوروبا ليست سوى هجرة في الجغرافيا، بل هي هجرة أجسادٍ من أرضٍ إلى أخرى فحسب، بينما تظلّ روحُ المهاجر أسيرةَ ثقافته الشرقيّة بجميع أقانيمها وقِيَمها الأخلاقية والاجتماعية والعقائدية التي تقود سلوكَه، وتحدّد طبيعةَ علائقه مع الناس. وهو الأمر الذي جعل حسن درويش يقف في منطقة وسطى بين حضارتيْن مُتضادتيْن، وظلّت روحُه تتأرجح ممزَّقةً بينهما؛ فلا هو استطاع الانتماءَ الصريح إلى إحداهما، ولا تحرّرَ من إسارهما في الآن نفسه، وهذا ما زاد من قسوةِ شعوره بالوِحدة والضياع والانسحاق، فخسر اسمَه بحمولته الدَّلالية، وخسر شرَفَه العائليّ، وخسر حياتَه، وصار رَجُلَ الخرابِ بامتياز.


(*) صدرت عن مؤسّسة هنداوي بالقاهرة سنة 2015

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها