الجمعة 2014/12/19

آخر تحديث: 13:57 (بيروت)

ترجمة العين وعين الترجمة: عن الفن المعاصر والحِرف المغربية

الجمعة 2014/12/19
increase حجم الخط decrease

من الطّرائف التي نقلها الجاحظ عن نفسه، أنّ امرأة مرّت به وسألته مرافقتها، فتبعها إلى أن وصلا محلّ صياغة، وسمعها تقول للصّائغ: "مثل هذا"، ثم انصرفت. استفسر الجاحظ عن قصد المرأة بقولها، فأخبره صاحب المحلّ أنّها جلبت خاتماً وطلبتْ على فصّه نقش صورة الشّيطان، ولأنّ الحِرفي لم ير شيطانا قطّ، مثلنا جميعاً ربما، فإنّها جاءته بالجاحظ. لقد كان الجاحظ رجلاً قبيحاً، ولكي يقاوم قبحه، كان يكتب عنه.

ما فعله الجاحظ، وهو ينقل القصّة، شبيه بما أقدم عليه الحرفيون المغاربة الذين شاركوا الفنان البلجيكي إيريك فان هوﭪ تحدّيه، أي أنهم استسلموا لهذه المرأة الفاتنة المتمثلة في الفن المعاصر؛ رافقوها إلى حيث رسموا ونحتوا وكتبوا فوق النّحاس والخشب والعظام كل ما يُمجّد "تهمة" سذاجة الصناعة التقليدية، وتبخيس العمل اليدوي بشكل عام. لقد قام هؤلاء الحرفيون بإعادة تصنيع محرّك V12 لسيّارة مرسيدس يدويّاً. فيا لها من سذاجة إذن!

على عكس الاعتقاد الذي ساد مع بعض الحركات الطليعية في أوروبا، والقائل بذوبان المدلول في التأويلات المبهمة للتشكيل، عاد الفن المعاصر ليطرح علاقة الصّورة بالنص، الجمالي بالسياسي، والعلامات بالمعاني، واضعاً اللّغة نُصب عينيه باعتبارها جزءاً من عملية التشييد الشّاعري، إلى جانب الوسائط الأخرى، من دون أن تعلو عليها أو تمحوها. فاللّغة ليست فكراً عالِماً يتفوّق على بقية الأشكال التصويرية، وإنّما مادّة تُطوَّع وتُوظّف في العمل الفني (في الفيديو والتجهيز والتجهيز الأدائي). لكننا، ونحن نتقصى استقبال هذه المفاهيم داخل العربية، نصطدم مباشرة بـ"التّرجمة"، بضيافة لغة تبحث عن حداثتها في الصّورة وبعنف صورة تشفط عناصر النص، والمجال الذي يتفاعل داخله، من راهنيّتهما لتقوية أنطولوجية وليدة، أدبية وتقنية واقتصادية.

قد تكون هذه الاستدارة الطّارئة نحو العربية، بغضّ النظر عن الرغبة الذاتية لبعض الفنانين المعاصرين في تنويع أبعادهم التخييلية، مسألة مثيرة للاهتمام السلطوي والتسويقي. لكن الهدف هنا يبقى منحصراً في البحث عن التائهين على الهوامش: الصّانع في دور المترجم والمترجم في دور الصّانع. 

إذا اعتبرنا أنّ الحرفة حكاية المنسيين، أي شهادتهم أمام محكمة التاريخ، ونصّبنا هذا الفن المباغت، الذي يأتي عادة بحمولة استشراقية (حتى من طرف الفنانين العرب أنفسهم)، محامياً وديعاً لهم (للمنسيين)، فمن الممكن القول بأنّ فكرة فان هوﭪ النزقة تندرج ضمن ما سمّاه جاك رانسيير بـ"الثّورة الجمالية"، أي ضمن صيرورة تُربك التفاوت بين هؤلاء المتهمين ومحاميهم الخاص، بل وتجعله هو الآخر جنبهم، داخل قفص الاتهام، أمام قوانين العَرق والإنتاج. هكذا يتوقف الفن عن التواجد كمحاكاة (سيمولاكرا على طريقة بودريار)، أو كضامن لبروز منزاح للعمل. فنظام توزيع المجالات ينهار تماماً، وتنهار معه فكرة تقسيم الأدوار. الجميع يُفكّر والجميع يُنفّذ داخل تشارك محسوس يُعطّل التّقانة كجوهر خالص وينزل بالفن إلى حالته الحرفية الاعتيادية.

لم يُمجّد هذا المشروع التقانة مستنجداً باليد، ولا مدح اليد تكريساً للتقانة، بل وضعهما الواحدة قبالة الثانية، في الخلاء، بين الجبال، والحداثة تراقب، حتّى يتقارعا. هكذا أقحم فان هوﭪ نفسه، برفقة الحرفيين، وسط هذه الـMorgana Fata الممتعة والمربكة في الآن نفسه. تصبح ترجمة العين، أثناء تلاقيها بالحركة والخدعة، ليست "مهمّة مترجم" فحسب، أو صانع أو خريج معهد فني يحفظ دروسه عن ظهر قلب، وإنّما قضية مجتمع بأكمله، يُترجِم ويُترجَم.

يقول أنطوان برمان في "اختبار الأجنبي": "تقوم الترجمة بلفّ العمل الفني وتكشف فيه عن منحدر آخر". هذه هي عين الترجمة، أي امتلاك الأداة التي تُدوّر الأشياء، أكانت لغة أم ثاقباً كهربائياً أم مِعولاً، ثم تروّضُها باليد التي تداعب وتصفع، باليد التي تشير للفضاء وهي تقول للعين بالقول: انظري هناك، ذاك مدى الممكن وهذا ممكن يستحيل... ما يستحيل على العين مشاهدته، ما "نراه" في الأحلام وعيوننا مغمضة، القريب جداً إلى درجة تملّكنا له، مخدوعين، قبل أن يَدرج هارباً عند الإستفاقة، يمكن لليد ابتكاره وتجريبه وتصميم كياناته وهوياته.

يتحدث الباحث الأميركي ماثيو كراوفورد، في كتابه "مديح الدوار: في معنى وقيمة العمل"، عن فينومينولوجيا اليومي داخل السياق الرأسمالي، وكيف أن هذه المنظومة تخلط عمداً، في صلب معادلة الزمن والإنتاج، بين التطلعات الإبداعية للفرد، وحبّه في الظهور، و"حنان المقاولة" بهدف استنزاف أفكاره وجهده، داخل أوقات العمل، لرفع الإيرادات.

إنّ هذه الكلمات، التي تحالفت نيّتي ونيّة الفنان على نشرها، ليست ترجمة أسوّق لها وأدافع عنها فحسب، وإنّما وشم حياة صانع يعيش بداخلي. فقبل 15 عاماً، كنت أمضي جُلّ العُطَل الصيفية داخل مشغل والدي، صائغ الذّهب. مع بقية الحرفيين، كنت أمشط السّبائك وأنقشها وأدلّك هذا المعدن النّفيس ليلمع أكثر. ولعلّ ما أفعله الآن، من طريق رقن الحروف في لوحة المفاتيح، لا يعدو أن يكون أكثر من نَسخٍ لما كنت أقوم به وقتها، بمطرقة صغيرة تركت صوتاً مُعتقّاً يتردّد في أذني من حينها: "تن، تن، تن". ما زلت أسمع الرّنين ذاته، وأنتظر الجنية مورغان تأتيني بشيطانها، أنقش صورته على دُملجِ سميك. دُملجُ المعنى وجواهره المسكونة بالأرواح الشريرة. أصرع الجنية فيه، جنية اللغة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها