الخميس 2024/04/04

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

أثبتت تاريخية البرديّات الأموية...وداد القاضي: أؤمن بالقدرة التوحيدية للغة

الخميس 2024/04/04
increase حجم الخط decrease
[1] تُقارب وداد القاضي في كتاباتها بالعربية والإنكليزيّة، جوانب متعدّدة من الحضارة العربيّة الإسلاميّة قلّما طرقها باحث واحد، منها الفكر الإسلاميّ المبكّر، والتفاسير القرآنيّة، واستعمال القرآن في الأدب، وعلم الكلام، والفرق الإسلاميّة، والتاريخ، والمخطوطات والبرديّات المبكّرة، والفكر السياسيّ، والطبقات، والنثر الفنّيّ المبكّر. واستطاعت القاضي أن تشكّل مدرسةً فكريّة وتخرّج على يدها العشرات من الباحثين الذين يتبوّأون اليوم أبرز المناصب والكراسي البحثيّة في الولايات المتّحدة والعالم. يعرف كلّ مَن درس تحت إشراف وداد القاضي سقف توقّعاتها العالي من طلاّبها، المقترن بتشجيعها المستمرّ وتفانيها في حياتها المهنيّة التي جمعت فيها بين أعلى المعايير العلميّة وأرقى المبادئ الإنسانيّة.

درست وداد القاضي في الجامعة الأميركيّة في بيروت ونالت شهادة الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها على يد عملاق حقل الدراسات العربيّة والإسلاميّة إحسان عبّاس. حاولت القاضي في رسالتها للماجستير عن أبي حيّان التوحيديّ (ت 414/1025) أن تعيد بناء مجتمع القرن الرابع الهجريّ الإسلاميّ، بما تضمّنه هذا المجتمع من مفكّرين وفرق دينيّة وطبقات اجتماعيّة، من أصحاب بلاطات وأدباء، حكّام وثوّار، ومن زهد ومجون، تديّن وفلسفة. تابعت دراساتها العليا في الجامعة الأميركيّة في بيروت على يد إحسان عبّاس، وفي جامعة توبنغن في ألمانيا على يد أستاذ الدراسات الإسلاميّة جوزيف فان إس. وفي أطروحتها للدكتوراه اتجّهت نحو الفرق الدينيّة وعلم الكلام، مركّزة على فرقة الكيسانيّة، خاصّة في القرنين الأوّلين الهجريّين. تجمع الأطروحة بين التحليلَين التاريخي والأدبي، وتقارب ثيمات جذّابة كالثورة والتحرّكات السرّيّة والدعويّة والشهادة والانتقام والبطولة والعدالة، إلى جانب الخطب الساحرة.

تركّزت أبحاث وداد القاضي في الجامعة الأميركيّة بعد التخرّج، على النثر العربيّ، تحقيقًا ودراسةً؛ والنثر هو القالب التي عبّرت من خلاله الحضارة العربيّة الإسلاميّة عن معظم أفكارها. في هذا المجال، اهتمّت وداد القاضي بمعظم أنواع النثر العربيّ وأشكاله، وتجلّى هذا الجهد في كتابها "مختارات من النثر العربي".

شكّلت الحرب اللبنانيّة، التي اندلعت العام 1975 واستمرّت أكثر من خمسة عشر عامًا، نقطة تحوّل في حياة وداد القاضي. فقد قضت الحرب على جميع مظاهر القانون والنظام، وشُلّت الدولة في ظلّ تناحر الطوائف والجماعات والميليشيات والأحزاب التي قادت البلاد إلى الخراب. هاجرت وداد القاضي العام 1985 إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة وتنقّلت بين عدّدٍ من الجامعات المرموقة مثل هارفرد وكولومبيا وييل لتستقرّ في جامعة شيكاغو. في الولايات المتّحدة ركّزت الباحثة على ما افتقدته في لبنان - على الدولة، تحديدًا الدولة الأمويّة. جاء هذا التركيز على الأمويّين تطوّرًا لاهتمامها برسائل عبد الحميد الكاتب، مؤسّس النثر الفنّيّ العربيّ، ووعيها المتزايد بأنّ هجوم المؤرّخين الغربيّين وشكّهم في موثوقيّة المصادر العربيّة يشكّل تحدّيًا منهجيًّا لا يجوز للباحث العربيّ تجاهله.

واجهت وداد القاضي هذه المقاربة المشكِّكة في التراث بتنويعها لمصادر كتابة التاريخ، لا من حيث النوع الأدبيّ فحسب، بل من حيث الطبيعة والمادّة، كاعتمادها على النقوش والنقود والمكاييل والأوزان. وجاء اكتشافها لثراء مادّة البرديّات العربيّة واليونانيّة والقبطيّة التي تعود إلى الفترة الأمويّة ليعزّز من هذا التوجّه الذي اعتمدته في دراستها لبدايات الدولة الإسلاميّة. وأخذت القاضي بمقارنة المعلومات المستقاة من هذه المصادر المادّيّة بالمصادر الأدبيّة المشكَّك فيها، وذلك بتأنّ شديد، لتثبت صحّة كثير ممّا ذُكر فيها، ولتؤسّس بذلك منهجًا يُحتذى يمهّد لقيام حقل الدراسات العربيّة والإسلاميّة على أسس وقواعد ثابتة.

تُعنى البرديّات الأمويّة التي وصلتنا بأمور الدولة الإسلاميّة العمليّة، كقيمة الضريبة والجزية ورواتب الجند والبراءات وإحصاء السكّان ومسح الأراضي والرسائل الإداريّة وغيرها ممّا يتعلّق بالدولة، وهي بذلك تحتوي على أسماء المئات ممّن يرتبطون بالدولة بشكلٍ أو بآخر ومئات النصوص القصيرة التي تفصّل عددًا هائلاً من العمليّات الاقتصاديّة والإداريّة المرتبطة بالدولة وجهازها الإداريّ. تشكّل هذه البرديّات وثائقَ يُطمأنّ إليها في كتابة تاريخ تلك الفترة، لكنّ استقاء أيّة معلومات منها يتطلّب عنايةً وجهدًا جبّارَين لم تبخل بهما وداد القاضي. إذ بدأت في تلك الفترة مشروعها الضخم عن الجهاز البيروقراطيّ للدولة الأمويّة (41-132هـ/660-750م)، والذي أثمر عددًا كبيرًا من الدراسات التي تستقرئ آلاف الأسماء والتواريخ والأماكن والمباني والأراضي والأنساب والمرتّبات والنصوص والأوزان والعطايا والعهود والوثائق، فتمكّن بذلك من كتابة تاريخ الدولة الأمويّة ووصف جهازها الإداري والبيروقراطي في مدن عديدة.

منهجيًّا، طرحت وداد القاضي مسألتين في غاية الأهمّيّة. أولاهما: ما العلاقة بين المادّة التاريخيّة الواردة في المصادر الأدبيّة -كتب التاريخ خاصّةً- وبين مختلف أنواع الوثائق وخاصّةً البَرديّات؟ وهل تتضمّن أو تستعمل المصادر الأدبيّة الوثائقَ من دون الإشارة إلى ذلك؟ تثبت دراسات القاضي تكامل المصادر الأدبيّة ووثائق البرديّات وتجانسها، فتكشف جوانبَ مثيرة عبر قراءة إحداهما في ضوء الأخرى. المسألة الثانية التي اهتمّت بها القاضي هي طبيعة الدليل التاريخي. فتتساءل عمّا إذا كان الدارسون الغربيّون محقّين في اعتبارهم أنّ المؤرّخين في فترة ما قبل الحداثة كانوا ينظرون إلى الوثائق كدليل أوثق من الروايات الشفهيّة أو المسندة أو العينيّة. وتشير دراساتها إلى أنّ الرؤية التاريخيّة والأدلّة القائمة عليها تختلف باختلاف الثقافات، وأنّ المؤرّخين المسلمين المبكّرين يقفون موقفًا مخالفًا لما يتوقّعه بعض الدارسين في الغرب.

نالت وداد القاضي عشرات الجوائز العلميّة والأوسمة والتكريمات، منها جائزة عبد الحميد شومان للباحثين العرب العام 1982، وجائزة الملك فيصل في حقل الأدب العربي العام 1994، والدكتوراه الفخريّة من الجامعة الأميركيّة في بيروت العام 2012، ومؤخّرًا في 2022 العضويّة الكاملة في الأكاديميّة الأميركيّة للآداب والعلوم.



- نبدأ من طفولتك. كنتِ تقصّين عليّ قصصًا رائعة عن جدّتك، وما زلتُ إلى اليوم أذكرها وأشاركها مع غيري في مواقف معيّنة لما تحمله من عبرة لطيفة أو نصيحة. أخبريني أكثر عن قصص الطفولة، ما المواقف أو الأحداث التي أثّرت فيك في طفولتك وما زالت محفورةً في ذاكرتك إلى الآن؟

* كنت أحبّ الكتابة كثيرًا منذ صغري، أكتب وأكتب وأكتب... وقد لاحظت أمّي تميّزي، فخصّتني باهتمام وحماية فائقين. وزاد ذلك بعد إصابتي بمرض عضال وأنا في السابعة عشرة من العمر، إذ قال الطبيب حينها لأمّي: "لا يجدر بوداد أن تحزن، أبقيها بعيدةً من الأحزان". [تضحك وداد] وهل يمكن لإنسانٍ ألا يحزن؟! لكنّ أمّي، ذلك الملاك الرحيم، كانت تخاف عليّ من المناوشات البسيطة، فإذا علا صوت شجار في البيت أسرعت إلى المتشاجرين قائلة: "أخفضوا أصواتكم كي لا تسمع وداد فتحزن". وكانت لهذه المعاملة الخاصّة ضريبة، إذ كانت تثير أحيانًا غيرة أخواتي. تمامًا كما حصل مع شخصيّات بنات الأمّ التي تؤدّي دورها آنجيلا لانزبري (Angela Lansbury) في فيلم The Shell Seekers العام 1987.

وأذكر من أيّام الطفولة أيضًا شغفي بالمطالعة، كنت أحبّ قصص المكتبة الخضراء الصادرة في مصر والمليئة بالصور والألوان المتميّزة، وأحبّ الروايات القصيرة المترجمة إلى العربيّة الصادرة عن دار المعارف في مصر، مثل آيفنهو ورأس الرجاء الصالح وجزيرة الكنوز ثمّ توسّع ليشمل التاريخ والأدب العربيّ ثمّ العالميّ. كان خالي[2] -- الذي كان مثلي الأعلى في القراءة المستمرّة وغيرها-- يأتيني بهذه القصص كلّها، فهو الوحيد في عائلتي الذي عتي بالشأن العلميّ. علّمنا في البداية أركان الإسلام من كتاب "أنا مسلم". وكانت أسعد أوقاته تلك التي نذهب فيها في رحلة مع العائلة إلى بساتين قرية عيناب الجبليّة، قريبًا من مكان اصطيافنا.

- هل تتمنّين لو أنّك تعلّمتِ الموسيقى في صغرك؟ فأنا أعرف أنّك تتحلّين بأذنٍ موسيقيّة وقد حاولتِ تعلُّم العزف على البيانو بعدما كبرتِ..

* هذا صحيح، أحبّ الموسيقى وأعجب بالرقص وإيقاعاته، ولديّ أذنٌ موسيقيّة لكنّني أفتقد التقنيّة أو اللغة الموسيقيّة، ولذلك أعزف حتّى اليوم بالاعتماد على السماع.

- ألم تتأثّري دينيًّا بخالك؟

* لا، لم تكن دراسة الدين جذّابةً بالنسبة إلي. تأثّرتُ أكثر بلغته وفصاحته، لا سيّما أنّ والدي كان أخرس وقد ولّد ذلك في داخلي ميلًا وتقديرًا كبيرين للصوت عامّة، واللغة بشكلٍ خاصّ.

- لماذا درستِ العربيّة؟

* أظنّ أنّ السبب وراء شغفي بدراسة التراث العربيّ وأدبه وتاريخه هو القائد جمال عبد الناصر، فقد أثّرت شخصيّته في جيلنا كثيرًا، شعرنا بفضله بأنّ لنا – كعرب-- قيمة، وبأنّ عندنا تاريخًا عريقًا علينا أن نكتشفه وننشره.

- هل أُحبطتِ لاحقًا بسبب فشل مشروعه؟

* لا يمكنني قول ذلك، خاصّةً أنّني أؤمن باللغة وقدرتها على التوحيد، فاللغة هي التي تجعل أمّةً ما مختلفةً عن الأمم الأخرى. خُذ مثلًا فيلمًا سينمائيًّا صدر بغير لغة، النصّ نفسه يظهر بوجه آخر كلّيًّا مع تغيير اللغة. ولأنّني أؤمن باللغة وقدرتها على التوحيد، أجدني حزينة جدًّا من واقع اللغة العربيّة اليوم، فأنا ألحظ تدهورًا في إمكانيّاتها بسبب القصور في طرق تعليمها. إنّ المفردات العربيّة المستعملة اليوم لا تسعفني في وصف غرفةٍ واحدة بما فيها.

- ماذا قدّمت لك ألمانيا؟ وماذا قدّمت لك أميركا؟

* ألمانيا كانت مرحلةً ثوريّة بالنسبة إلي، هي أوّل بلد أسافر إليه، والفضل في ذلك يعود إلى الدكتور محمود الغول في دائرة اللغة العربيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، كان يقدّر تميّزي ويصرّ على أن أستكمل دراستي في الخارج، مع العلم بوجود نقص في عدد الفرص الموجودة في الخارج وطبيعتها. أميركا بشكل أعمّ فتحت لي آفاق جديدة، وغيّرت جذريًّا في الطريقة التي أنظر فيها إلى المادّة الأدبيّة. تعلّمتُ أنّ ما نقرأه هو صورة عن التاريخ وليس التاريخ نفسه، فهناك دائمًا حاجز الزمن يحول بيننا وبين رؤيته عيانًا. ولذلك علينا أن نطرح الأسئلة دائمًا، ونحاول الوصول من وراء الصورة إلى الحقيقة التاريخيّة، وهذا واضحٌ في عملي على البرديّات والحضارة المادّيّة. أنا مهتمّة بسؤال الموثوقيّة، رغم أنّ عددًا كبيرًا من المؤرّخين لا يعتنون بمفهوم الحقيقة التاريخيّة أصلًا، ويتركّز عملهم على إضافة صورة جديدة للصور التي وصلتنا.

- هل شعرتِ، كونك امرأة، بأنّ عليك النضال للحصول على حقوقك في الأكاديميا في بيروت أو في أميركا؟ أم أنّك عوملتِ بشكلٍ عادل؟

* لم يشغلني هذا الموضوع أبدًا، كنت أعرف أنّني إذا تميّزتُ بعلمي وعملي فسأحصل على التقدير الذي أريد. ولذلك لا تجدني ناشطةً اجتماعيًّا، وعادةً ما أُلام على ذلك، لكنّ العمل الأكاديميّ والنشاط الاجتماعيّ مهارتان مختلفتان، وأنا لا أملك مهارة الكلام عن المرأة. أفرح طبعًا عند رؤية امرأة شابّة تتحدّث في موضوع يحمل أملًا للمستقبل، وأفرح أكثر ممّا لو جاء هذا الكلام على لسان أخيها مثلًا، والسبب ببساطة أنّ المجتمع قد منح الصبيّ قوّة عظيمة منذ اللحظة التي يولد فيها.



- علاقتك بطلابك ليست علاقة تقليديّة بين أستاذة وطلّابها، فأنتِ مرشدة حقيقيّة بالنسبة إليهم، لا في الأمور الأكاديميّة فحسب بل في أمور الحياة كلّها. وهذا الأمر غير شائع في الأكاديميا الأميركيّة، أنتِ حالة خاصّة، مدرسة خاصّة، تنفقين الكثير من وقتك بشكل استثنائيّ على الطلّاب.

* طلّابي هم أفضل شيءٍ حدث لي في حياتي، عندما أقدّم لهم شيئًا فأنا أقدّم لنفسي شيئًا. هم الجيل الثاني، وأنا أعدّ نفسي محظوظة أنّني أفيدهم وأستفيد منهم. التعليم مهمّة عميقة ومعقّدة، وأنا آخذ عملي على محمل الجدّيّة، وهذا نابعٌ من داخلي. كما أنّني لا أميّز بين طلّابي أبدًا، الذكور منهم والإناث، المسلمين وغير المسلمين، كلّهم في نظري "ملائكة"، ويُسعدني تعليمهم وتمكينهم.

- يكثر بين أبناء جيلك المؤوّلون للتاريخ (revisionists)، ومنهم بعض الباحثين العرب، فهل تجدين ذلك التيّار ناجعًا في أميركا؟ أم أنّها صيحة وستمضي؟

* أجدها أحيانًا مهمّة وأحيانًا مضيعة للوقت، يتمّ تقديمها على أنّها دليل على براعة الباحث. كنتُ أحاضر يومًا في جامعة جورج تاون وقالت لي إحدى الموجودات: أنت ربّما تسلكين الطريق السهلة ولا تتعمّقين في دراسة النصّ من أجل الوصول إلى الصورة الحقيقيّة. فقلت لها: أنا لا أريد الصورة الحقيقيّة، بل أريد أن أبيّن مختلف المناهج التي تقودنا لتلك الصورة. إنّ كثرة طرح الأسئلة لا يجعل منّا دائمًا باحثين أفضل.

- أعرف أنّك لم تسترسلي في استعمال النظريّات، فهل تجدينها ضروريّة؟ هل تضيف شيئًا إلى الحقل؟ أم أنّ المقاربة الفيلولوجيّة كافية بالنسبة إليك؟

* الفيلولوجيا عمليّة، لكنّ الباحث يحتاج إلى أن يخلص إلى نتيجةٍ ما بعد إجراء العمليّة. النظريّات تكون مفيدة أحيانًا، وغير مفيدة أحيانًا أخرى. ومن الجيّد أنّ جيل الدارسين اليوم واعٍ بهذه النظريّات، أمّا أنا فكنت أستعملها بشكل محدود لأنّني تعرّفت إليها لاحقًا، وهي تحتاج إلى مِران طويل.

- أي مُدُن تسكنك طيلة الوقت؟ تذكرينها دائمًا وتحملينها معك وتشتاقين إليها؟

* لندن طبعًا، مدينة الموسيقى والمسرح، هي في طليعة المدن التي تسكنني. تسحرني في تحوّلها من مدينة قديمة إلى هذا الحدّ إلى مدينة حديثة إلى هذا الحدّ. نيويورك أيضًا أثّرت فيّ، هي مدينة قاسية، تربّي الإنسان، لكنّها تستحقّ التضحية.

- تعجبني مقالتك عن المرجعيّة بين الشرق والغرب وأدرّسها عادةً لطلّابي، تعجبني لأنّها تتحدّث عن الوقائع كما هي: شرق لا يعترف بالغرب مرجعيّةً أكاديميّة، وغرب لا يعترف بالشرق قيمةً أكاديميّة ويحصر قدرته في تحقيق التراث فحسب، وينفي عنه القدرة على التفكير النقديّ.. هل وجدتِ في نهاية مسارك الأكاديميّ تغيُّرًا في هذه العلاقة؟ هل لاحظتِ حضورًا لباحثين متمكّنين يكتبون بالعربيّة؟ ماذا عن المؤتمرات والمجلّات المحكّمة التي تصدر بالعربيّة؟

* هناك تغيّرات كثيرة تحدث في حقلنا، والاستمرار فيها أمرٌ مطلوب. ولا أظنّ أنّ الوقت قد فات لتغيير الواقع، علينا فقط أن نستمرّ في المحاولة.

- يتميّز جيلك، أو جزء من جيلك على الأقلّ، بالاعتناء بالمنهجيّة. ما أهمّيّة ذلك في رأيك؟

* إنّ بنية الورقة البحثيّة أو تصميمها يوازي أهمّيّة المضمون في نظري. وأعترف أنّني كنت مهووسةً بذلك، وأذكر حين شرعتُ في كتابة مخطّط أطروحتي، نصبتُ خيمةً على شرفة بيتنا في المصيف ومكثتُ أعمل داخلها قرابة 3 أشهر حتّى أنجزت التصميم، فغدا من بعدها توسيع الأطروحة أمرًا سهلًا عليّ. والدقّة بالنسبة إلي مهمّةٌ جدًّا، فالباحث يخذل قارئه إن لم يكن دقيقًا.

- ألحظ شخصيًّا أنّ الفاعليّة قد طغت على الأستاذيّة في الآونة الأخيرة، وذلك في الأكاديميا العربيّة والغربيّة على السواء. يُطلب من الأستاذ الجامعيّ أن يصل إلى جمهورٍ أوسع، أن ينشر في جريدة أو يظهر في مقابلة تلفزيونيّة، بتعبير آخر، أن يتحوّل إلى مفكّرٍ أو مثقّف عامّ، يدعم هذه القضيّة أو تلك. لأيّ درجة ترين أنّ على الأكاديميّ أن يفعل ما يفعله الصحافيّ، أو أن يحمي نفسه من هذه الاصطفافات؟

* الاصطفافات تكون مشروعة عندما يوقن الشخص أنّ ما يتحدّث عنه صحيح ومحقّ، وعندما يجتهد في البحث عن الحقيقة ولا يردّد أصوات الآخرين. لكن من جهة أخرى، تستنزف هذه الاصطفافات وقت الباحث، والأولى أن ينفقه على البحث العلميّ.

- قلتِ لي مؤخّرًا إنّك تهتمّين الآن بالسينما وتتابعين الأفلام. إذا عُرض عليك الذهاب إلى جزيرة لقضاء شهر هناك، ما الأفلام الثلاثة والروايات الثلاث التي تأخذينها معك؟

* "Casablanca" فيلم رائع، وبنية المشاهد فيه سلسة جدًّا، وسلاستها تلك جذّابة جدًّا. يدور الفيلم حول النضال من أجل الحقيقة، ويُظهر صعوبة استمرار الحبّ في ظلّ كثرة المشاكل، وإن كان الفيلم يحاول تذليلها وحلّها بشفافيّة وصدق. والفيلم الثاني "Judgment at Nuremberg"، تدور أحداثه بعد الحرب العالميّة الثانية، حين أحضر الأميركيّون ثلاثة قضاة لاستجواب الذين قاتلوا مع هتلر. يثير الفيلم أسئلة صعبة عن الولاء وتناقضه مع إحقاق العدل أحيانًا، وعن خضوع الجنديّ للأوامر ورغبته في الثورة التي تعرّض حياته للخطر. والنضج الذي تظهره كلّ شخصيّة في الفيلم هو ممتع حقًّا للمُشاهد، لا سيّما شخصيّة القاضي سبنسر ترايسي (Spencer Tracy). والفيلم الثالث هو "The Lives of Others" وهو فيلم ألمانيّ مظلمٌ جدًّا، يحكي عن شخص موظّف في جهاز الجاسوسيّة الألمانيّة الشرقيّة وظيفته أن يستمع إلى محادثات الآخرين، ثمّ يتعاطف مع قصّة أحدهم ويحاول إنقاذه من عسف الدولة. وفيلم شيكاغو "Chicago" أيضًا عظيم، فمن المبهر إصدار هذه الموسيقى البديعة بهذه السرعة. أمّا عن الروايات فأحبّ كتابات John le Carré وعبد الرزّاق قرنه، وربّما أختار ثلاث روايات لقرنه.

- على ماذا تندمين في الحياة؟

* أندم أنّني لم أتعلّم اليونانيّة واللاتينيّة، لكنّ الفرص التي أُتيحت لنا في لبنان كانت محدودةً جدًّا.

____________________________


[1]
أجري هذا الحوار في سكوتسدايل، أريزونا بدعم من الأكاديميّة العربيّة الألمانيّة للعلماء الشباب في العلوم والإنسانيّات (AGYA)

[2] خالها الشيخ محمّد عبد الرحمن مغربل (ت 2011)، الرئيس الأسبق للمحكمة الشرعيّة السنّيّة في لبنان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها