الأربعاء 2024/04/03

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

عبدالله العلايلي المجدد والمتنور...ولقاء مع أنطون سعادة لم يتمّ

الأربعاء 2024/04/03
عبدالله العلايلي المجدد والمتنور...ولقاء مع أنطون سعادة لم يتمّ
العلايلي مع سعيد عقل
increase حجم الخط decrease
عندما توفي الشيخ عبدالله العلايلي(1914- 1996) كتب الشاعر شوقي أبي شقرا في الصفحة الأولى لجريدة "النهار" اللبنانية مقالاً بعنوان "أيُفتى والعلايلي خرج من المدينة".

وبالفعل من كان مثله يفري فريه في كل امر في كل بيان وكل قضية. واليوم هي الذكرى الـ110 لولادته والـ28 على رحيله. لم يزل حضوره وازناً في الثقافة العربية ولم تزل الحاجة إليه وإلى أمثاله مُلحّة. هو الذي أكد دائماً على الاجتهاد والابداع في كل ما يتصل بالحياة. لا أزال أحتفظ بين أوراقي بمقال له في جريدة "النهار" العام 1993 يقول فيه: "إن الإبداع عطاء فرد وأن التطور عطاء مجتمع. وأن الأفكار الكبرى في التاريخ عطاء أفراد وتغيير المجتمع عطاء جماعة".

حاول العلايلي في كل مسعاه أن يزحزح الباب العملاق وأن ينتزع الاقفال الصدئة وان يخلع الأبواب الصلدة وان يفتح النوافذ لهواء جديد لا يحول بين الشريعة والاحكام وهموم الناس. الشيخ العلايلي البيروتي الازهري، كان من أساتذته المرصفي والجيزاوي وبخيت وشاكر والدحوي. تخرج في الأزهر العام 1935 وقفل عائداً إلى بيروت. لكنه بعد سنتين عاد إلى القاهرة مجدداً منتسباً إلى كلية الحقوق فيها حتى العام 1940 اذ اضطرته الحرب العالمية الثانية للعودة إلى بيروت. وكتب عن تلك المرحلة مذكرات عنوانها "أعوام في مصر" لكنها فُقدت.

تأثر بأفكار الزعيم الوطني مصطفى كامل الداعية إلى الاستقلال وبافكار جمال الدين الأفغاني الداعية للوحدة الإسلامية والإصلاح الديني والاجتماعي. أصدر العلايلي قبل مغادرته مصر كتاب "أدباء وحشاشون" مصوراً فيه المجتمع المصري بطبيعته المختلفة. وهذا الكتاب أيضاً مفقود. نشط العلايلي في إنشاء عصبة العمل القومي اليسارية الاتجاه. وإزاء الواقع المثخن بالانقسامات الطائفية والسياسية دعا إلى الوعي القومي من خلال سلسلة مقالات جمعها في كتاب بعنوان" أني أتهم". وبين المقالات واحدة بعنوان "متى يعود لنا وطن". ساهم العلايلي في تأسيس حزب "النداء القومي" الذي ترأسه كاظم الصلح ومعهم نصري المعلوف وتقي الدين الصلح وإدمون رباط وغيرهم. يصف العلايلي هذا الحزب بأنه كان حزباً تحرّرياً عربياً. كما خطب في يومي تأسيس حزب الكتائب والنجادة انسجاماً مع دعوته لتحريك الركود وخض الذاكرة الوطنية وخلق مناخ وطني. كما شارك في تأسيس جبهة التحرر الوطني العام 1947 مع عبد الحميد كرامي وكمال جنبلاط وكان تجمعاً معارضاً لحكومة الاستقلال الأولى. وكان في تلك الأثناء مواظباً على كتابة المقالات الصحافية في مجلة "كل شيء" تحت عنوان "شيء صريح".


في العام 1949، أسس مع كمال جنبلاط وجورج حنا وصبحي المحمصاني "الحزب التقدمي الاشتراكي". ويذكر العلايلي أن مشادة فكرية نشبت بينه وبين جنبلاط لإدخال عبارة العالم العربي في بعض مواد دستور الحزب. لم يستمر العلايلي في الحزب طويلاً، لكنه استمر محتفظاً بصداقته لكمال جنبلاط. في العام نفسه، كتب أنطون سعادة سلسلة مقالات في مجلة "كل شيء" بعنوان" العروبة أفلست"، فكتب العلايلي رداً بعنوان" العروبة وطني". ويقول العلايلي في مقابلة مع فضل الأمين في مجلة "الشراع" 1986: "إلى اقتراح بعض الأصدقاء ان تعقد مناظرة بين سعادة وبعض العروبيين واقترح سعادة أن تكون ثنائية بيني وبينه. قبلت بالمناظرة وعين مكانها زمانها في منزل نقيب الصحافة فحضرت وانتظرت من الساعة الثامنة حتى التاسعة ليلاَ، ولم يحضر الزعيم". ويتابع العلايلي: "عندها خرجت مع البعلبكي نتمشى في شوارع بيروت ترويحاً عن النفس. وحضر سعادة متأخراً وأقام في بيت والد النقيب بعلبكي وطلب من مرافقيه ان يبحثوا عني حيثما أمكن. ولم يفلحوا وعادوا أدراجهم ولم يتم اللقاء. وبعد أسبوعين ألقي القبض على سعادة وحوكم وأعدم. وعثر في مفكرته على كلمات بخط يده أنه سيلتقي عبدالله العلايلي في يوم محدّد وساعة معينة. وقد أحضر المرحوم رياض الصلح المفكرة معه وراح يعرضها على ممن يعرف منهم حباً لي قائلاً أنني أحفظ المفكرة عندى حفاظاً على كرامة الشيخ عبدالله ومخافة أن تعمد النيابة العامة لاستجوابه".

لكن الشيخ عبدالله في مكان آخر يشرح بدقة أسباب إعدام سعادة، يقول: "تيار فرنسي خبيث نتيجة صراع انكليزي فرنسي وما دام سعادة موجوداً تهيأت سوريا الكبرى. وهذا ما أدى إلى مصرعه. فالانكليز ألفوا حكومة الاستقلال من بشارة الخوري ورياض الصلح. وكانوا يخاصمون كل من لا يسير في هذا التيار الانكلوسكسوني. لكن بشارة الخوري والمنظر السياسي لهذا العهد ميشال شيحا وغيرهما انقلبوا إلى التيار اللاتيني الفرنسي. اضعفوا التيار الأول كل الإضعاف ليمشي التيار اللاتيني. هذا التيار عصف بكل ما يعني الحزب السوري القومي الاجتماعي فأخذوا رئيسه كرمز من رموزه"...

بقي العلايلي في حومة كل صراع فتراه في العام 1952 يخوض غمار موقع دار الإفتاء لينال 45 صوتا مقابل 52 صوتاً لمحمد علايا الذي أصبح مفتيا للجمهورية. يومها كتب سعيد عقل" اذا لم يصبح العلايلي مفتيا الجمهورية سأصاب بمس من الجنون". في تلك الفترة شارك في تأسيس عصبة السلام مع انطون ثابت ورئيف خوري. ولما تأسست جمعية أهل القلم كان العلايلي في طليعة مؤيديها. اتهم العلايلي بالانتماء إلى الحزب الشيوعي وأطلق عليه لقب "الشيخ الأحمر" خصوصا بعد توكيده على قول الحديث الشريف" الماء والكلا والنار ملك الناس أجمعين". عام 1956 كلفه الجنرال فؤاد شهاب بالعمل على وضع معجم بالمصطلحات العسكرية وقد لازمته هذه المهمة حتى العام 1968 وكانت حصيلتها أربعين ألف كلمة وقد تولى الجيش اللبناني طبع هذا المعجم الذي غدا مرجعاً في توحيد المصطلحات العسكرية لدى الجيوش العربية. انكب الشيخ على وضع قاموس أطلق عليه اسم "المرجع". وكان يردد "لغة بدون قاموس دولة بدون دستور". ولم ينشر من المرجع سوى الجزء الأول وتوقف عند حرف الجيم. نال في بداية السبعينات جائزة تقديرية من جمعية أصدقاء الكتاب. ولما اندلعت الحرب في لبنان في نيسان 1974 عمد العلايلي الى توجيه رسالة مفتوحة إلى زعماء الأحزاب يدعوهم فيها الى التعقل وواد الفتنة. وكتب مثلها إلى الملوك والرؤساء العرب بحثهم على إنقاذ لبنان. وكتب شعراً: اسعفوه جمعوا أوصاله/ قبل أن يضحي بقايا مومياء". ثم جمع هذه الأبيات في كتاب بعنوان "قصائد دامية الحرف بيضاء الامل لاجل لبنان"(1977). ابرز كتبه "أين الخطأ" 1978 و1992 وكان لصدوره لأول مرة ردة سلبية فهاجمه اهل التقليد واتهموه بالهرطقة ودعوا الى محاكمته ومنع كتابه من دخوله بعض الدول العربية. وهناك كتاب "رحلة إلى الخلد" قصيدة من 1500 بيت فقد أكثرها. وكتاب " من ايام النبوة مشاهد وقصص" (1992). هذا عدا الكثير من المقالات في الصحف والمجلات والدوريات والتي لم تجمع أو تنشر في كتاب ولعلها توازي ما نشر. 

شدّد العلايلي على أن لا دراسة فقهية من خارج معرفة عميقة لتفاصيل التاريخ ومنعرجاته. تميز العلايلي بالانفتاح على كل فكر وكان يقول "أنا سمح مع كل فكر وإن كان مناقضاً لما اعتقد حتى لو كان فكراً هداماً. يهمني الفكر لذاته من اي مصدر فلا ربيع بدون شتاء ولا رونق زهر بدون عاصفة". ويروي الناقد محمد دكروب أنه ترافق مع محمد عيتاني والشيخ عبدالله علايلي لحضور فيلم للمخرج السويدي انغمار برغمان وان المتعة كل المتعة في النقد السينمائي الذي يسدده العلايلي للفيلم ورؤية مخرجه.
كان الشيخ يستشرف تجليات في عبقرية اللغة العربية إذ إن الكلمة فيها ليست دلالة بل قدر قيمة أيضا. فهي إذ تنهض بالتعبير عن الشيء تقدر قيمته. أذكره يضع كأس الشاي أمامه ويشرب إذ كان يشكو من نشفان يساعد الماء والسكر على تجاوزه. وإذا اخذه التفكير يسحب من جارور طاولته الصغيرة ما تبقى من مجلة سيجارة. في سياق الحديث قلت له أن ما تقوم به يحتاج الى مؤسسات. تناول بطاقة من طاولته وقال البارحة زارنا أحدهم وقال إنه من مؤسسة الحريري وقال إذا احتجت إلى أي شيء اتصل بنا. وأطلق ضحكة غريبة تتهكم على الزمن والايام. وذات مرة استل من جاروره صورة تجمعه مع فؤاد افرام البستاني وسعيد عقل وجواد بولس. وقال: "أحضرتها لي إحدى مذيعات التلفزيون وسالتني عن مناسبة الصورة، فقلت لها: "كنت ادعوهم الى الاسلام ولكن لم يهتدوا"، وأردف: "سعيد عقل عملاق قزم نفسه". في إحدى الجلسات استودعناه، الصديق محمود عساف مدقق اللغة في دار الجديد وانا، وخرجنا الى الباب على مالوفنا ويبقى هو جالسا في غرفته كالقنديل. لنتفاجأ به خلفنا بحركة رشيقة ومبتسما كوجه طفل. 

امام هذا التاريخ الذي مثله العلايلي في انهماكاته وإبداعاته الفكرية واللغوية والفقهية والاصلاحية والسياسية وبعد التجارب والآمال والخيبات. لا أعرف كيف تجرأت وسألته بماذا يؤمن العلايلي اليوم. أجاب: "أؤمن اليوم بالإنسان... الانسان أينما كان وفق التعبير القرآني تماماً ولقد كرمنا بني آدم. أي الكلية الآدمية هي التي كرمته والتي جعلته كريما ثمّ لقد" خلقنا الإنسان في احسن تقويم" وفي معناه الأدبي كذلك".

في العام 1996 جاد الشيخ عبدالله العلايلي بأنفاسه الاخيرة. أغلق الورقة الاخيرة من سفر سيظل مفتوحاً على جرح وعلى امل ومتدفقا مثل نبع ومتعالياً مثل قنطرة فوق أي تفرقة وتمييز وشفيفاً مثل آذان الفجر.

أخيراً، يؤرقني السؤال: كيف تمكن إعادة ضبط تراث العلايلي ونشره، خصوصاً المفقود منه أو المهمل؟ كيف نعيده الى المدينة ثانية كما عرفناه رائداً اصلاحياً نهضوياً متنوراً. ونعيد معه فتوحات العقل والاجتهاد ورصد الآفاق المعرفية والحضارية والتاريخية والإنسانية التي تسعفنا على التطور والإصلاح والتغيير والعدالة الحقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها