الأحد 2024/04/28

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

نداء الشعانين

الأحد 2024/04/28
نداء الشعانين
أحد الشعانين، مخطوط سرياني من شمالي العراق
increase حجم الخط decrease
«هيّا تقدّم أنت وحدك،
حولك الكهّان ينتظرون أمر الله فاصعد،
أيّها القربان نحو المذبح الحجريّ،
يا كبش الفداء فدائنا،
واصعد قويّا» (محمود درويش)

تقول الحكاية، كما دوّنها الرواة الأوّلون، إنّ الرجل الصاعد إلى حتفه كان حريصاً على أن ينبئ تلاميذه بما سيحصل في المدينة التي يقصدونها سيراً على الأقدام. مرّةً تلو مرّة، أخبرهم أنّ الطواغيت سيسلّمونه إلى الحاكم الرومانيّ كي يميتوه. سيشبك أراخنة هيكل اليهود، قال، أصابعهم بأصابع المحتلّ الرومانيّ ويرقصون معه رقصة الموت حول خشبة معلّقة على تلّة.

سيحملقون بعضهم إلى بعض ثمّ يهتفون بالوالي: «أنّى لنا أن يكون لنا ملك إلّا قيصر». طبعاً، لن يكون هذا أوّل حلف موضوعيّ بين الضحيّة وجلّادها، ولن يكون الأخير. لن تكون هذه أوّل رقصة مشتركة بين مَن يحتلّ الأرض ومَن يدّعي أنّه يريد تحريرها من الاحتلال، ولن تكون الأخيرة. وكعادة الأشياء حين تنعقد الأحلاف فوق رؤوس الضعفاء، فإنّ الثمن هو الدم.

ويروي لنا الرواة أنّ الرجال الاثني عشر الذين كانوا يتبعونه لم يفهموا شيئاً، حتّى إنّ اثنين منهم فاتحا الرجل برغبتهما الجامحة في أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره حين يتربّع هو على عرش مجده. لم يقسُ عليهما هذه المرّة كما في المرّات السابقة. فهو يعرف أنّه محكوم عليه أن يمضي إلى الموت وحيداً. أمّا الراوية مرقس، بتهكّمه المعهود، فأنبأ قرّاءه، وأنبأنا من بعدهم، أنّ اللذين آلت بهما الحال أن يكونا عن يمينه وعن يساره كانا لا التلميذين، بل لصّين صُلبا معه على تلّة الموت، وكان هذان «يعيّرانه». لا عرش للرجل، إذاً، سوى صليب وُضعت عليه لافتة ساخرة: «ملك اليهود». ولا مجد له سوى الموت اللاعنفيّ فيما عليّة القوم يلحسون لحاهم ويقهقهون. 

حين دخل المدينة المقدّسة، دخلها على جحش. لم يكن من شيمه أن يستعيض عن السير على قدميه، كعادة الفقراء، بالركوب على مطيّة. لكن إذا كان لا بدّ لأحدهم من أن يسمّيه ملكاً، فلا مناص من أن يتمّ هذا عبر تفجير مؤسّسة الملكيّة من الداخل، أي عبر انزياح في المفاهيم يقلب الأمور رأساً على عقب. لأوّل مرّة في التاريخ لعلّها الأخيرة أيضاً، تنتصب فوق سهوب فلسطين صورة «الملك» الفقير الذي لا يعتلي عرشاً، ولا يمتطي فرساً: «قولوا لابنة صهيون، هوذا ملكك يأتيك وديعاً، راكباً على أتان وجحش ابن أتان». لم يخطئ حدس المتجبّرين الساكنين على تلّة الهيكل. فهذه بداية الثورة. والثورات التي لا تُخمَد في مهدها كفيلة بأن تزعزع المنظومات والتحالفات وهيكليّات السلطة. لا بدّ من القتل، إذاً، كي تنجو الأمّة ويستقيم فعل الترياق.

لكنّ الرجل لم يتراجع. ذهب إلى بيت أبيه كي يستعيده إلى دائرة الحقّ، وإلى الغاية الأصليّة التي كانت له قبل أن يحوّله البطاريق إلى ما يشبه الماخور. وما إن دخل الهيكل، حتّى شرع يطرد الباعة والصيارفة معلناً: «بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». تلفّظ بالكلمة المفتاح «لجميع الأمم»، فعاجلته نبوءة أشعياء أنّ أمماً كثيرةً ستتنادى وتصعد إلى الجبل المقدّس. هناك سيدعون باسم الربّ، ويتعلّمون منه العدل، و«يطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمّة على أمّة سيفاً، ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد». يعرف الرجل أنّه يأتي من هذه الرؤية النبويّة. ويدرك أنّه سيقتاد إلى تلّة معلّقة بين التباسات الغمام وأنين الأرض كي يدفع حياته ثمناً لالتصاقه باحتمالات الكلمة التي تبشّر بانبجاس السلام من رحم العدل وانهيار سور العداوة بين شعوب الأرض. 
ازداد يسوع تشبّثاً بمصيره، إذ ليس مثل الدم يختم على سطور الحكاية…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها