الأربعاء 2024/04/17

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

"استحالة أدب الأطفال" وأسئلة أخرى

الأربعاء 2024/04/17
"استحالة أدب الأطفال" وأسئلة أخرى
جاكلين روز مؤلفة كتاب استحالة ادب ألأطفال- حالة بيتر بان
increase حجم الخط decrease
"أسئلة القلق الملحّة" هي العبارة التي سيطرت على القاعة الأثرية في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو خلال الدورة السابعة لمهرجان "اللغة العربية وثقافاتها" بين 10 و12 من الشهر الجاري، والتي اتّخذت من "الذكاء الاصطناعي" عنواناً لها. لكن صدى العبارة تخطّى أروقة الجامعة وزمن المهرجان ليتردّد في عقول المشاركين والحضور وقتاً طويلاً.

رغم اتّساع الموضوع وثرائه وارتباطه بكل كبيرة وصغيرة في حياتنا المعاصرة، إلا أنّ المهرجان نجح في الوفاء بوعوده وإطلاق أسئلة مهمّة حول هذه التكنولوجيا التي تبثّ منذ العام الماضي الرعب في قلوب كثيرين، والذهول في عقول الغالبية. بلغ الذهول درجة عطّل معها القدرة على الاستيعاب وتوقّع الآتي، وهنا أتى خيار الدكتور المصري وائل فاروق- مدير المهرجان- صائباً في الإصرار على العنوان رغم مئات المؤتمرات والفعاليات التي تناولت الموضوع نفسه وكادت توحي بأنّه لن يكون جديد يُطرح حوله، كما قال فاروق في إحدى مداخلاته، إلّا أنّ الأسئلة والإشكاليات التي تولّدت اتّسمت بالابتكار والاختلاف بالطرح والمقاربة.

لم تقتصر طروحات المهرجان على أنّ بشراً كثيرين يخافون من أن يسلبهم الذكاء الاصطناعي وظائفهم، وأنّ العقل البشري يحاول جاهداً أن يتوقّع مكانه في المستقبل، بل تميّزت في عرض مقاربات فنانين ومثقفين ومفكرين لإعادة صياغة مفاهيم الخيال والإبداع والفنّ مثلاً لا حصراً. ما هو الإبداع البشري؟ وإلى أين قد يصل خيال الأنسان؟ وكيف تتمدّد حدود الفنّ وتتشابك مع الآلة؟

القلق كان حاضراً، فنحن لا نعرف حقاً الى أين قد تأخذنا هذه التقنية المُطلقة القدرات أو الطموح، لكن، رغم القلق، شعّت بوادر الأمل في أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي في حلّ الكثير من مشاكلنا الثقافية كما الطبية والهندسية مثلاً، والانشغال عن الهواجس بالعمل على الاستفادة من الميزات الكبرى التي تتوفّر اليوم لنا وتعدنا بالمزيد كل يوم.

الخوف رسم مسيرة الحضارة البشرية. سواء أردنا أن نهزمه أو نتغافل عنه فإننا في المحصلة سنعمل ونبحث ونحلّل ونكتب ونبدع... وهذا ما ركّزتُ عليه في مشاركتي خلال المهرجان، فقد خلصت بعد قراءات كثيرة حول موضوعه إلى أنّ ما يجدي الآن هو التصدّي للمخاوف والشكوى والتهويل عبر افتراض حسن النوايا واستخدام الذكاء الاصطناعي في حلّ بعض المعضلات الثقافية والأدبية.

كان لافتاً أن تخصّص إدارة المهرجان مشكورة منبراً لأدب الأطفال، الأدب الذي يسقط سهواً أو عمداً من برامج الكثير من الفعاليات الثقافية والأدبية تحديداً العربية. أتى هذا الاستدراك في مكانه وزمانه المناسبين، منطلقاً من مسلّمة مهمّة وهي أن أدب الأطفال بمثابة الحبل الوريد للأدب العالمي، حتى أنّ الباحثة Juliet Dusinberre،  في كتابها "أليس نحو المنارة" درست تأثير أدب لويس كارول في تشكيل "تيار الوعي" الروائي، متخذة فيرجينيا وولف نموذجاً، واصفة تثير أدب الأطفال في أدب البالغين بالتأثير ذي الاتجاه الواحد غير المتبادل، ما تعرّض للانتقادات لكنه فتح جدالاً أدبياً ثرياً. باختصار، وولف وهي طفلة تأثرت بـ"أليس في بلاد العجائب"، وحين كبرت وصارت كاتبة انعكس تأثرها ذاك في كتابتها، فرفضت وصل النقاط للقارئ. 

قادتني ميزات الذكاء الاصطناعي العالية في "السرد التفاعلي" وخوارزميات جمع وتحليل بيانات القراء إلى استعادة نظرية "استحالة أدب الأطفال"، التي تُعتبر واحدة من أبرز معضلاته، وهي لا تعني استحالة كتابة نصّ للطفل، بل استحالة العلاقة بين الكاتب البالغ والقارئ الطفل، واستحالة مقاربة البالغ لمفهوم "الطفولة"، وصعوبة فهم البالغ للطفل على نحو بعيد من المفاهيم المسبقة الخاطئة.

من جهة ثانية، كتّاب الأطفال لا يعلمون إلا القليل عن تلقّي جمهورهم اليافع للأدب، ليس لأنه لا يجيد التعبير تماماً عن رأيه وتأثّره وانفعالاته، بل لأنّ هذا التأثّر يحفر عميقاً في وعيه ولاوعيه ويكمن هناك ليظهر في سنوات لاحقة، وتحديداً بعد النضوج والبلوغ. فهل نعيش اليوم لحظة مصيرية في تاريخ هذا الأدب؟ هل سيتحوّل "المستحيل" ممكناً عبر ما تقدّمه الخوارزميات والبرمجيات من سبر لأغوار القارئ وتفضيلاته وخياراته، وما يوفّره السرد التفاعلي الرقمي و"المخصّص" للطفل من مشاركة في تطوير الحبكة والشخصيات والشراكة مع الكاتب؟

منذ أطلقت الباحثة البريطانية جاكلين روز مصطلح "استحالة أدب الأطفال" 1984 والجدل دائر حوله، كذلك البحوث والتحليلات. دراسة العلاقة بين الكاتب والقارئ خلصت إلى أن الكبار يكتبون للصغار كما يخاطبونهم، ويخاطبونهم وفق تصوّرهم المسبق عن الطفولة وما يجب أن يكون عليه الطفل. هناك فارق ملحوظ بين هذه التصوّرات وواقع الطفل. روز اتّخذت "بيتر بان" نموذجاً لنظريّتها، وهي قصّة مبنيّة على العلاقة بين البلوغ والطفولة، فبيتر يرفض أن يكبر، وهو يجمع في بلاد خيالية الأطفال الذين ماتوا ليمنحهم طفولة أبديّة. أما الأمير الصغير، فمنذ ولد في مخيلة دي سانت اكزوبري، وهو صغير حتى اليوم. وفي رواية "الحارس في حقل الشوفان" لسالينجر يحلم البطل اليافع، هولدن، بأن يحرس الأطفال الأبرياء اللاهين في حقل شوفان لئلا ينزلقوا من حافّته نحو البلوغ وعالم البالغين "المزيّف"...

خلال العقود الأربعة الأخيرة، تطوّرت حقول دراسات الطفولة وساعدت في تطوير فهمنا للطفولة، لكن بشكل غير كافٍ، ونجح بعض الكتّاب في الحفاظ على الطفل فيهم والكتابة عبره، كما تفعل، مثلاً، جودي بلوم التي تقول "أنا أكتب بالطفلة فيّ وليس للأطفال"، كذلك جي كي رولينغ، وهما "استفادتا من إرث لويس كارول" وفق تعبير مؤرخ أدب الأطفال الأنغلوفوني بيتر هانت، إذ تعتبر قصة "أليس في بلاد العجائب" رائدة في ردم الهوّة بين الكاتب والقارئ، وإقامة حوار بين القارئ والشخصيات، ومنح القارئ الصغير الفرصة للتعبير عن أفكاره بعيداً من تحكّم الكبار، وتفسير ما يقرأه كما يريد هو وليس كما يفترض ويتوقّع منه، وعدم مصادرة خياله، ما شكّل بذرة احترام ذكاء الطفل والثقة فيه.

مفهوم الطفولة يتبلور كل عصر، ومع الذكاء الاصطناعي يتبلور كل يوم، وحين يحدق الخطر بأحد مفاهيمنا وتياراتنا الفكرية، يجب أن يظهر من ينبهنا لأنّ الأدب والإبداع والطفولة ليست في خطر، بل تصوّراتنا عنها، وهذا أبرز ما أنجزه مهرجانُ هذا العامِ الدقيقِ والحسّاس في زمننا ومستقبلنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها