لكي تسمعيني
ترِقُّ كلماتي
مثل آثار طيور النورس
على رمال الشطآن.
المشبّه فيه في هذه الحالة وهي "آثار طيور النّورس على الرّمل"، من المكوّنات الرّكائزيّة لحقل البحر المحسوس. وبذلك، يكون التّشبيه ذا بعد واقعيّ، يمنح القارئ القدرة على التّقدم في القصيدة تحليلاً ووجداناً. لكن إذا أردنا أن نرسم هذه الصّورة في نظام إحداثيات قائم على الزّمان والمكان والمخيّلة، يصبح التّشبيه أقرب إلى هيئة المستوى الهندسيّة منه إلى نموذج الخطّ أو النقطة السّابحة وحيدةً في الفضاء. وبفعل هذه الهندسة البلاغيّة، يرتسم التّشبيه في مخيّلة عصر السّرعة الخاطفة، على أنّه سلسلة لا تنتهي من التّفاصيل والأحداث والترابطات التي لا تؤتي نتيجة. وهنالك أمثلة أخرى على ذلك، مثال:
هناك تُطبِق وحدتي ويَستعرُ لهيبها وتلوّح بذراعيها مثل غريق... وسط الأمواج، في المياه البعيدة، يستسلم جسدُكِ الجميل بين ذراعيَّ مثل سمكة التصقت بروحي إلى الأبد وأنا أُسرع وأتمهّل تحت زُرقة السماء.
لكن شِعر نيرودا الشّاب، أكبر من أن تحتويه بنية بلاغية واحدة. ففي قصيدته الأخيرة، تتجلّى الأشكال الهندسيّة الصّوريّة الأقرب إلى منهجيّة السّرعة الخاطفة للوعي الحديث. إذ يقول مثلًا، إحدى أشهر وأجمل عباراته وهي:
أستطيع أن أكتب الأشعار الأكثر حزناً هذه الليلة.
أحببتها، وأحياناً هي أيضاً أحبّتني".
هذه العبارة كاملة، يمكن وضعها وحدها على صفحة بأكملها، يمكن أن تكون وحدها قصيدةً بحدّ ذاتها. ورسمها في النّظام ثلاثيّ الإحداثيّات المذكور سابقاً، يكون بخطّ. فإذا تمعّنا في العبارة أكثر، نجد أن عنصر المكان غائب عن المعادلة التّشبيهيّة. لذا فإنّ هذه الأخيرة تتشكّل من العلاقة بين الزّمان، وهو اللّيل، والمخيّلة، التي يمكنها أن تضع رجلًا عجوزاً على كرسيه المتحرك أو شاباً يائساً خلف مكتبه أو ربّما راهباً في ديره نادماً على نذوره. إن الخطّ، يشكّل عمليّاً نقطة تلاقٍ مع العقل الحديث أقرب بكثير من المستوى. وإذا عملنا على تعديل هذه العبارة لتصبح نقطةً فقط، ويكون ذلك عبر حذف "هذه اللّيلة" منها، فنجد أنّ عنصر الزّمان قد أُلغِيَ كلّياً، لتصبح المخيّلة العنصر الوحيد الذي تقوم عليه هندسة الصورة البلاغية.
كثّف كثّف، لا تخف!
ولتقريب العمليّة الهندسيّة والتّباين بين أشكالها الثّلاثة المذكورة وأثرها على التّكثيف الشّعري، سيكون علينا المضي خطوةً أخرى إلى الأمام. إن التّكثيف الشّعريّ يتّخذ حجم وهيكليّة الهندسة البلاغية للصورة أو العبارة. بمعنى آخر، لنتخيّل النّقطة أو الخطّ أو المستوى، ممتلئة من الخيال الشّعري المكثّف. إن نسبة الضّغط الشّعري، أو كما أسميناه التّكثيف، تزداد بوتيرة متسارعة مع انخفاض مساحة الشّكل الهندسيّة. فالنّقطة مستحوذة على نسبة كثافة تفوق بشدّة تلك التي في المستوى والخطّ. كلّما انحدرنا في سلّم الأحجام الهندسيّة كلّما وصلنا إلى حالة أسمى من الكثافة الشّعريّة. وبطريقة أخرى، إن التقاط نقطة، أو كرة صغيرة، بسرعة، بمتانة وثبات أسهل بكثير من حمل خطّ أو سهم، أو مستوى أو لوح ما مهما تقلّصت قياساتها. ومن الأمثلة على ذلك، قول نيرودا في قصيدته "تلعبين كل الأيّام": "أنتِ هنا".
فثقة نيرودا الشّعريّة كبيرة لدرجة أنّه متأكّد أن القارئ سيمسك كلماته من اللمحة الأولى. هنا؟ أين يعني هنا؟ إن هذه الـ"هنا" تمتد أكثر مما توحي. إذ إن استخدامها يرجع إلى تعيين مكانيّ ما، لكن هذا المكان المستهدف متنقّل، بلا حدود ومتناهٍ، سهلُ التّحديد وصعب في آنٍ معاً. وبذلك يساعد التّكثيف الشّعريّ على ضمان فرادة الاحساس والانخطاف. فالقارئ، الذي يحدّد إطار هذه الـ"هنا" في مخيّلته، يصعب عليه التّحديد الواقعيّ لهذا الموقع. إن عمليّة التّكثيف تضمن التّماهي الكامل مع اللّغة العاريّة. والكثير من الدّلائل الأخرى تشدّد على مهارة نيرودا في توزيع التّكثيف ضمن القصيدة الواحدة. فيقول أيضاً "الرّيح. الرّيح." ، و"آه، أيّتها الصّامتة!"، "اتبعيني."، إذ حين يردّد مرتين الرّيح، مؤكّداً أنّ كل واحدةٍ منها تشكّل جملةً بنفسها، يعمل نيرواد على حشو النّقطة الشّعريّة بمحيطات من الإدراك الحسيّ الخياليّ، ويفرض على القارئ التّكرار ليتمّ معنى التّعبير الشّعريّ وإيقاعه، على حدّ سواء.
لذلك، إن الشّعر الحديث الهارب سريعاً بين اللّحظات، من دون ان يلحق به أحد، يجد في التّعابير المكّثفة، النّقاط، سهولة في الفهم والتّماثل. فالقارئ الذي يملّ إن بقي يقرأ صفحةً أكثر من دقيقة أو دقيقتين، لن يُعجبه أو يغريه جهد فكريّ تخيّليّ ولغويّ ليكتشف المعنى المضمر وراء جملة أو عبارة أو حتّى نعتٍ ما. وكما يقال أحياناً في الملابس أنّها جاهزة للّبس Prêt-à-porter.. كذلك العبارات الشّعريّة الحديثة عليها أن تكون كذلك.
خاتمة غير مريحة
ما الفائدة من الشّعر؟ إن كان التّعبير عن الذّات، أرمِه وأمشِ. الشّعرُ الذي لم يفلت من قبضة النّفعيّة الرّأسماليّة الخانقة، خسر رونق ثورته. هو الانقضاض على الزّمان والمكان والمخيّلة، هو عمليّة تحويل الجدران إلى غرف ومدن. من أراد أن يحزن فليبكِ وليترك الشّعر. من أراد أن يغيّر الواقع السّياسيّ ويشجّع الانقلاب فلينزل إلى الشّارع وليترك الشّعر. من أراد أن يفرح فليوزّع علينا البقلاوة وليترك الشّعر. من لم يرد شيئاً فليأخذ الشّعر وليحتجِب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها