الأربعاء 2024/04/10

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

"ولاد بديعة".... الاستفزاز المجاني

الأربعاء 2024/04/10
"ولاد بديعة".... الاستفزاز المجاني
نسي القائمون على المسلسل أن الطباخ الماهر يضع لكل وجبة وصفتها الخاصة بها
increase حجم الخط decrease
بعد تخرجي من كلية الفنون الجميلة بدمشق، عملت في إحدى شركات الإعلان، وأتذكر يوماً اعترض فيه مديرها على فكرة إعلان تلفزيوني حيث يكسر طفل لعبته عمداً، كذلك وجدنا منه مرة اعتراضاً على أن يظهر رجل وهو يدخن بشراهة. كانت وجهة نظره أن التلفزيون موجود في البيوت كافة، وعلينا أن نكون حريصين في ما نقدمه على الشاشة التي تجلس قبالتها العائلة، من صغيرها إلى كبيرها، ومن المفضل أن نقدم رسالتنا من دون اللجوء إلى هذه الأفكار أو المشاهد الرديئة.

يحضر هذا الدرس الذي تعلمته، وأنا أتابع المسلسل السوري "ولاد بديعة"، والذي تدور أحداثه خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، في منطقة لمعامل دباغة الجلود، ونعيش فيه صراعاً بين أصحاب المعامل من جهة، وأولاد أحد معلمي المصلحة من جهة أخرى.

ما يثير في "ولاد بديعة" هو كمّ العنف في مَشاهده، وأيضاً ذلك الاستهتار أو بالأحرى عدم احترام عقل المشاهد، إن في تفاصيل الأحداث أو حتى في الأحداث نفسها كما في عددها من كرٍّ وفرّ، ولا نبالغ إذا قلنا إنه أقرب إلى الأفلام الهندية التي نتندر بمبالغاتها المثيرة للسخرية.

وربما من مساوئ دراما الموسم الرمضاني، أن شركات الإنتاج كما التلفزيونات، تفضل، بل تشترط أن يكون عدد حلقات العمل بعدد أيام شهر رمضان، وإن امتدّ هذا العدد إلى أيام العيد، فهذا مستحسن! وبهذا تصبح لدى المؤلف كما المخرج، مهمة الإطالة والحشو واختلاق المواقف والأحداث "من الغيم" حتى يتحقق هذا الشرط.

وقد نسي القائمون على "ولاد بديعة" أن الطباخ الماهر يضع لكل وجبة وصفتها الخاصة بها، ولا يصلح أن يضع فيها كل ما لديه من أنواع التوابل والمنكهات. وهكذا تحضر في المسلسل هذا، مَشاهد الحب والرقص والغناء والكوميديا والعنف والأكشن والتصوف ونقد بعض التقاليد الاجتماعية البالية. هو خلطة عجيبة من كل ما يخطر في بال القائمين على صنعه من أفكار اختبروها في حياتهم المهنية، أو عرفوا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أنها تجلب اللايك وتصنع التريند.

ونعود إلى فكرتنا الأولى حول الحرص على سوية وصورة ما نقدمه للجمهور العريض بكل فئاته، ونسأل: هل كل مَشاهد العنف والإجرام التي نراها هنا، ربما في كل حلقة وبأشكال مختلفة، تخدم المسلسل وتفيد السياق الدرامي ولا يستوي الأمر إلا بها؟ وحين تتطلب الرواية، على سبيل المثال، أن يظهر طفل حاملاً بذور الشر في نفسه منذ الصغر، فهل يكون الحل بتقديم مشهد وهو يحمل ثلاثة قطط ويشنقها انتقاماً من أصحابها؟ قد يكون واقع البلاد قاسياً ولا نطلب هنا تجميله، لكن هل عقل المشاهد قاصر عن فهم الحدث وقسوته من دون إراقة الدم بصورة مباشرة فجّة؟ أم هي المبالغة من أجل المبالغة؟

إن الصورة التي قدمتها المخرجة رشا شربتجي، هي صورة عنيفة، هدفها الاستفزاز المجاني المبالغ فيه من أجل شد الانتباه والخروج على المألوف. وقد يقول قائل إن الجميع، بمن فيهم الأولاد، يرون أفظع من هذا من خلال هواتفهم المحمولة. وقد يقول آخر إن المجتمع السوري في بعض المناطق قد وصل إلى هذا الحد من العنف وأكثر. لكننا نسأل هنا: هل بتقديم هذه الصورة نكون قد عالجنا الأمر؟ وهل أصبحنا نُنتج الأعمال الدرامية بمنطق فيديوهات الريل والتيك توك وغيرهما؟ وهل رواد هذه المواقع هم هدفنا؟

لقد كان الرسام الانكليزي المشهور، فرنسيس بيكون، يحتفظ في أرشيفه بمئات الصور لجنود قاتلوا في الحرب الأولى وقد تشوهت وجوههم، ولغيرهم من ضحايا النزاعات والمآسي، كذلك لجثث بعض الحيوانات، كما عَرف من قرب أمراض مجتمعه. لكنه في نهاية الأمر، حين أراد أن يقدم كل هذا "العنف" البشري الذي خبره، قدمه بأعمال فنية ذات سوية عالية، يصعب أن ننتقد متانتها أو إبداعه في نقل رسالته عن ذلك الإنسان فاقد الروح. وبالطبع لا يمكن المقارنة ما بين منطق لوحة تشكيلية ومنطق مسلسل تلفزيوني، لكننا هنا نتكلم عن منطق التفكير في كيفية إيصال الرسالة بنبل ومسؤولية.

أما النقطة الأخرى التي برأينا، أسقطت المسلسل، فتتعلق بتكرار الكاتب والفنان يامن الحجلي لدوره في "مال القبان"، وهذا الأخير بالمناسبة من أفضل الأعمال التي تابعناها في هذه الفترة. لقد أراد الحجلي أن يبرز في "ولاد بديعة"، ولو على حساب تماسك القصة، فلا يخفى على المتابع كيف أراد أن يكون هو المتميز بين بقية "اللاعبين"، في غياب بطل حقيقي مثل بسام كوسا في "مال القبان"، فيؤدي دور الطيب والشرير والحنون والشرس، الكاوبوي وصاحب النخوة وأهمها صاحب النكتة، وإن كانت مختلَقة أو في غير محلها. ولا نجد أكثر ابتذالاً من مشهد نتابعه في إحدى الحلقات الأخيرة، وفيه يعقد ياسين (اسم الحجلي في المسلسل) جلسة كتابة سيناريو مسلسل "بيئة شامية" لشركة الانتاج التي أسسها، وفي ذهنه أنه بهذا ينتقد ويسخّف تلك الأعمال. ولا نعرف في الحقيقة كيف استطاعوا تحويل الجو العام للمسلسل من مكان إلى آخر بهذه الخفة.

كنت قد قررت التوقف عن متابعة العمل عند الحلقة العاشرة، لكني عدلت عن رأيي حتى أرى "شو آخرتها"، لكن مع المشهد المذكور آنفاً عن جلسة الكتابة، قلت: هذا يكفي.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها