الأحد 2024/03/24

آخر تحديث: 06:52 (بيروت)

عن صانع الأعواد والكرمة وزيتون فلسطين

الأحد 2024/03/24
عن صانع الأعواد والكرمة وزيتون فلسطين
نريو جبران
increase حجم الخط decrease
إلى وسام جبران…
لم يصل الزيتون الفلسطينيّ إلى دارته في باريس هذه السنة. كلّ عام، كان الأهل يرسلون له الزيتون الأخضر إلى المدينة المغناج، فينصبون له خيمةً جليليّةً على ضفاف السين. «هذا الزيتون البرعميّ المذاق الواصل خاماً من الأرض الروميّة القديمة»، قال، «أنا أرصّه بنفسي». هكذا يتفتّح الطعم في مسام الثمرة السحريّة، ويتحوّل شتاء أوروبّا المكفهرّ بأسراب الغمام الرماديّ إلى مقطوعة موسيقيّة متوسّطيّة. لكنّ الحرب الرعناء حالت دون وصول الزيتون هذه السنة.

كيف جرّه الحديث إلى زيتون فلسطين؟ لقد اتّصل ذلك المساء كي يضع اللمسات الأخيرة على الفكرة. والفكرة هي زند العود الذي سيحمل رسماً أرابسكيّ المعالم تختلط فيه أوراق الكرمة بزخرفة متّزنة لا تعرف الإفراط. لكنّ الكرمة في بلادنا هي صنو الزيتون. فهي التي تواطأت معه، منذ أقدم الأزمنة، على صناعة المتعة وصناعة الفرح وصناعة الحياة. ليس من قبيل الصدفة أنّ رهبان فلسطين كانوا ينقطعون عن الزيت والخمر معاً حين يصومون، ولا يُقبلون عليهما من جديد إلّا متى غلّفتهم أهازيج العيد الكبير. إبّان ذاك الاتّصال الهاتفيّ، سمع لأوّل مرّة في حياته حكاية الزيتون في بلاد الأغارقة: لقد تنافس إله البحر بوسايدون وربّة الحكمة أثينا على خطب ودّ أهل أتيكا عبر تقديم الهدايا. لكنّ الإلهة الحكيمة ربحت المنافسة حين زرعت للأثينائيّين شجرة الزيتون إكسيراً للحياة وعنصراً للفرح، فتوّجوها ملكةً على عاصمتهم وأطلقوا اسمها على مدينتهم.

لقد حالت الحرب التي اندلعت في الأرض القديمة دون رصّ الحبيبات ذات المذاق الملوكيّ هذه السنة. في المشغل الذي تتخلّله الأخشاب الفاخرة وقوالب الأعواد بانعطافاتها الأنيقة، كان كثيراً ما يفكّر في زيتون بلاده. يفتقد النكهة الشهيّة تحت أسنانه، وفي خلجات روحه. ثمّ تأخذه أفكاره إلى كلّ هذا الموت الذي يحبسه المصوّرون في آلات إلكترونيّة صغيرة لئلّا تندثر الحكاية المكتوبة بالغبار والدم. لكنّه لم يسمح للحرب بأن تنتزع منه الفرح. صور أطفال غزّة الذين يقارعون الموت بالشطّة الغزاويّة وابتساماتهم الخرافيّة الهازئة بالموت كانت تضيء لياليه الدامسة وتحمله إلى الكونشرتو القادم في أثينا. لقد قضي الأمر واتّخذ قراره، فلمن يقدّم يا ترى أعذاره؟ سيقارع هذه الحرب اللعينة بالعمل الدؤوب والفرح العميم وسلطان الموسيقى حين تتسلطن. صباح عيد الأمّ، اتّصل بأمّه في الأرض القديمة وعيّدها. قدّم لها العقد الذي صنعه لها من ورود بستانهم وزنابق حقلهم. قبّل يدها اليمنى على ذبذبات الهاتف الجوّال. وتمنّى عليها أن تترضّى عليه في يوم عيدها، فترضّت. 

لم يتمكّن الأخ الأكبر، الذي يعيش في رام الله، من القدوم إلى أثينا. كان على صانع الأعواد أن يخوض مغامرة الكونشرتو الأوّل بعد اندلاع الحرب التي لم تضع أوزارها بعد مع شقيقه الأصغر منفردين. تلك الليلة، صارت الأوتار مرايا الروح. وصارت الموسيقى هي الجواب عن السؤال الذي يتراقص أمام أعيننا عن معنى الموت، وعن تأويل الحكاية القديمة المغروسة في قيعان الذات عن صيرورة الموت حياةً من باب القيامة. بعد الكونشرتو، خرج إلى الشارع الأثينائيّ المجاور للمسرح. فإذا به يبصر أشجار الزيتون الروميّ تصطفّ على جانبيّ الطريق وأريجها يخترق السماء ويحوّلها إلى وليمة. أوعز إلى أحدهم بأن يدفع إليه ببعض أكياس. ثمّ راح يقطف الزيتون ويدسّه في كيس من بعده كيس حتّى امتلأت جعبته، وأُتخمت أثوابه، وتورّمت حقائبه. 

لم يصل الزيتون الفلسطينيّ إلى دارته في باريس هذه السنة. لكنّه سيرصّ الزيتون الروميّ الذي زرعته ربّة الحكمة وزنرّت به تلال أثينا، مدينة الموسيقى والفلسفة والجمال المنحوت، كي تعلّم الناس أنّ معنى الحياة يكمن في الحياة. ومن ثمّ، سينتصب عالياً مثل زيتونة مباركة، ويفرش ذراعيه مثل كرمة في الجليل، ويلقي التحيّة على بلاده فلسطين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها