الأحد 2024/03/24

آخر تحديث: 06:55 (بيروت)

عـندما أزاح اللوردات الـقَـمـر مِـن مَـداره

الأحد 2024/03/24
عـندما أزاح اللوردات الـقَـمـر مِـن مَـداره
ندريا ماركولونغو
increase حجم الخط decrease
دخلَت أندريا ماركولونغـو عَالَـم الشّهرة الأدبيَّة من بَاب كلاسيكيّ رفـيع: اللـغة اليونانيَّـة. كانت منذ بداياتها الدّراسيَّة تعشق الدّلالات العـميقَـة للمصطلحات القـديمة الَّتي استخدمها في كلّ حال هوميروس وأفلاطون وأرسطو والتراجيديّون الأغارقـة الكبار وغيرهم. وقبل أن تدركَ تَمامًا مآلات المسار، استشعرت العلاقات الإدراكيَّة-الـمعرفـيَّة-العـقـليَّـة للمفاهيم الكامنة في الأصُول، ورأت فَـيها ما هُـو أكثر اتّساعًا من مجالٍ لـغويّ، ذلك أنّ التـفاعُـل الفكـريّ الفسيح مع المُعطيات لا يُـقَـدِّمُ لكَ اللغة -التي استقت منها الحضارة الغربيّة الكثير- بـل يهـبـكَ منهج تفكـير بالغ الحيويَّة، وَحَيّـزًا إدراكيًّـا تسطع فِـيه شمسُ الحيـاة، بل طريقَة حيـاةٍ في زمننا الحاضِر تُـنعِشُ كينُونَـة الإنسان الحُرِّ في عصر "ما-بعد-الحقيقة" والذّهاب بلا غايات واضحة تحت سلطة خلق عوالم الافـتـراض والانغماس المذهِـل في سائر أشكال "الماترِكس".

راجَ كتابُها الأوَّل "اللغـة الـبديعـة" في أرجاء العالم. سمَّتها صحيفة "لـومونـد" "الـبطـلـة الـيونـانيَّـة". ثُـمَّ كتبت في أصُول اشتـقـاق العشرات من المصطلحات الدّالـة على الآفـاق الحضَاريَّة الحـيَّـة لعـالمٍ قـديم، بِصيغـة رؤيَـة مستـقـبليَّة لإنعاشِ ملكة الإدراك والفـهـم الإنسانيَّـة تحت سماءٍ زرقـاء من خارج الشّاشات. أذِنَت لهـا مؤخّـرًا إدارة متحف الأكروبوليس في أثـيـنا بتمضِـيـة لـيلـةٍ بمفـردها فـي حَـرَم المكـان كمَن يُطلقُ روحًـا يونَـانيّـة مسَّتهَا ربَّـات الفـنُون (Muses) في فضَاء صَرحٍ يمـتلِكُ الـرّكام كي تـتـأمَّـل هذه الصبـيَّـة الـمُـلهَمَـة في هدوء لـيْلـةٍ استـثـنـائيَّة ما فـعَـلَـهُ العصـرُ الكولونيالي فِي مَـهـدِ "حضَارةِ الـعـقـلِ والجمـال". 


مضَت إلى المتحف أوّل المساء. رحَّـبَ بهَـا الحرَّاس كنجمةِ سعـدٍ يونانيَّـة في أرجاء العالَم. أدخلوها إلى فسحةٍ من خمسةٍ وعشرين ألف متر مربَّع وأقـفـلوا الأبواب. لم تكلّف أندريا نفسها عنـاء زيارة الطّابق الأرضيّ، ولا الطابق الأوَّل، بل أصعدها السلّم المتحرّك مباشرة إلى "رخام فيدياس"، وهي القاعَـة الَّتي تجمع بقايا مشوَّهَـة من حقُول منحوتات (ميتوبي)، وأفاريز كانت بكاملها فوق أعمـدة البارثينون القـائم فوق الأكروبوليس، والَّذي بُنيَ منذ ما يُقارب الأربعة قرون ونصف من قبل الميلاد بإشراف أعظم مَن حرَّك الـحجر الصَّلد بالنَحت اليوناني الكلاسيكي، ولـم يـبقَ منها الآن في مكانها الأصليّ سوى مَا تراه ماركولونغـو من "بضع شظايا من الرؤوس، والعديد من الأقدام، وعدد قليل من الأسلحة، وفوهات الخيول. لكن وجوه هؤلاء الرجال والنساء الأبديّـين، المنحوتة في الحجر من قبل مدرسة فيدياس كي تتمكَّن عيون الآدميـين من رؤيتها، لم تعد هنا. لقد تم ابتلاعها بمرور الوقت. أو هي مقطوعة الرأس بسبب الجشع البشري الذي أخذ تلك الرؤوس...".

غادرَ الحرَّاس من داخِل. وحدها الآن فِي خلاء التاريخ. لم تحمل في "حـقـيـبة الـزّهور" خاصّتها هوميروس أو أفلاطون "الَّذي يسيرُ دائمًا علَى ما يُرام مع كلّ شيء". لم يكن الكتاب الّذي أرادت أن تأخذه "لقضَاء الليل أمام ما تبقَّى من رخام البارثينون في أثينا سوى سيـرة اللـورد إلـجيـن".   
قبل أن تستعيد ما فعلـه اللورد، حدّقت في الفراغ. لـم تخف من بقـايـا الـرخام بل من غِيابِـه. أرادت كما قالت "أن تملأَ، علَى الأقـلَ بالكلمات، الفـراغ الَّذي خلَّفـتهُ مناشير الأوروبيّـين ومعاولهم الّتي حوَّلت اليونان القـديم بلا رحمـة إلى ’متجـر للحـجـارة‘" وفق تعبير اللورد الشاعر، بايرون. شظايا البارثينون المسروقة منتشرة في باريس وكوبنهاغن وفورتسبورغ وغيرها. ومن أجل إعطاء شكل وأبعاد لغيابها "اختار متحف الأكروبوليس عرض الفـراغ..." والفراغ هنا "رؤوس مبتورة، وأقدام ممزّقة، وأفاريز مشوّهة كما لو أنها أُخضِعت للتعذيب في العصور الوسطى". لكنّ ماركولونغو كانت تستشعر هذا الفـراغ إحساسًا قويًّـا، بل "رغـبة عميقة برؤيته أكثر امتلاء وصلابـة من رخام فيدياس..." فِـي أصُولهِ الـمَصُونة بِفـكـرة الجمـال عينها.   

كان اليونان خاضعًا لهيمنةِ العثمانيّـين منذ أن باتت القسطنطينيَّة في أيديهم. وكانت قـمَّة الأكروبوليس "صخرة محصَّنـة" يُشرفُ منها الـتّرك علَى المدينة. وحدَث أن انشغـل ملك إنكلترا بمسار حملة نابوليون المصريَّة، فعـيَّن سفيـرًا في الأستانَة أواخر العام 1798 هو اللورد إلجين Elgin "الّذي ميّز نفسه في مجالات الدراسة الثلاث للأرستقراطي الإنكليزي: الجيش والسياسة والدبلوماسية". كانت السّلطَنة في حالة حرب ضدّ فرنسا المتورّطة في "تنافُس أبديّ" مع نديدِها الامبراطوريّ إنكلترا الَّتي تدخَّلت بقـوَّة لردع نابوليون حمايَةً لمصالحها الاستراتيجيَّة. ومن العام 1798 حيث تمَّ تدمير الأسطول الفرنسي في خليج أبـو قـير، إلى العـام 1801 حيث هزمَ الجيش الانغلو-عثماني عدوَّه في الاسكندريَّة، وتوغَّـل وصولا إلى القاهرة، عادت بذلك مصر إلى الخضُوع لسيطرة العثمانيّين بتوقيع معاهدة باريس منتصف العام 1802. 
     
وصل إلجين إلى الأستانَـة في شهر نوفمبر 1799 سفيرًا أمام الباب العالي، وَكان قد دُعيَ فَور وصوله إلى مضيق الدردنيل إلى سفينة الباشا التي كانت كبائنها "تـتلألأ بالذّهب والحرير والسّيوف المرصّعة بالماس والياقوت..". مذّاك، سيمضي إلجين، وزوجته الّتي تنكَّرت في بعض المناسبات بزِيّ الرِّجال، طيلة أسبوعيْن فيمَا يُشبِهُ ليال من "الليالي العـربيَّة". الهدايا الثمينة والذّبائح والموكب "في شوارع القسطنطينية الضيّـقة على مركبات مذهَّبة برفقة عشرات الخدم"، ثمّ ذروة الأبّهة في حفل التـثبيت داخل قصر السّلطان.

بدت إنكلترا حليفًـا للسلطنة في ميدان القتال فِي وجه طموحات بونابرت. انعكس ذلك في بلاط السلطان اهتمامًا وإحاطةٍ مترفَـة بالرّعاية والاهتمام لسفير الامبراطوريَّة العظمى إلجين. في الأثناء، "حرَّكَ" المهندس توماس هاريسون خيالَ اللورد بالأهميَّة الفائقة لحثّ الرّوح الانكليزية بِالتـنَـبُّه إلى أنَّ الأصُول العظيمة للفنون الجميلة هي في أثينا قبل أن تكون في روما، ولا بأس من أن "يحملَ معهُ منها مثالا جماليًّـا لم يكن معروفًا في بلاده بالمستوى المطلوب"، لكنّ حكومة الملك لم تُـبْـدِ اهتمامًا في مثـل تـنصُّلٍ نابِه من الانزلاق في لعبـةٍ غير لائقـة، لكنّ اللورد راهن على "اعترافٍ لاحق من العائلة المالكة بفضلهِ..". 

أراد سعادة السّفير الآن أن تطأ قدمُه الأكروبوليس، "وكان المنعُ منَ الوصُول إليه حائلًا أمام الفرنسيين من تحقيق أطماعهم فيه". أراد إلجين فرمانًا من السلطان الّذي وجد فِـيه "تنازلًا ضئيلا ومتواضعًا" بعد أقـلّ من مضيّ ثلاثة أسابيع على الانتصار الانكليزي في مصر. ودقَّ القسّ هانت "المفاوض الماهر" مسمار الطّلب فـقـيل إنه "استحصلَ على فرمانٍ ثان وافٍ بالحاجة" موجود في أرشيفات المتحف البريطاني..."، لكن تـمَّ التّشكيك بصحَّـتِه من قِـبَـل "خبراء في اللغة الدبلوماسيَّة التي استخدمتها السلطات العثمانيَّة في تلك الفترة"، وفي كلّ حال، تضمَّن الفرمان الإذْن "بإزالة القليل من قطع الحجر التي عليها نقوش أو أشكال قديمة...".
ما حصل بعد ذلك أنَّ ما بين العاميْن 1801 و 1805 تَـمَّ تـفكيك أقسام أساسيَّة من البارثينون وإخراج أجزائها من الأكروبوليس، والنتيجة توضيب 12 تمثالًا من الأقواس، و156 لوحـة من الإفـريـز، و 13 شكلا من "حقـل المنحوتات"، وإفريز معبد أثينا... وبالإجمال حُـمِّـل أكـثر من مئتَي صندوق من اليونان إلى المراكب المتّجهة نحو إنكلترا، وقِـيـل أنَّ العديد منهـا تعرَّض للغـرَق في رحلاتٍ نقـلت صيغة فيدياس الجماليّة في سرد تاريخ أثينـا واليونان من سماء موطِنِـها الجميل إلى ضباب العاصمة الامبراطوريَّة، والعديد المجهول منها إلى الرّمال المغمورة بمياه البحار والمحيطات. 

غسلَ البرلمان البريطاني يديْه من القضيَّة تحت وطاة انتقاداتٍ عديدة أبرزها بشكل رئيسي موقف الشّاعر اللورد بايرون الَّذي دبَّج قصائد لاذعة في نقـد "العمل التخريبي" الَّذي ارتكبه إلجين. وأثير الجدل بالتوازي مع الاهتمام المتزايد "بالفنّ والهندسة المعماريَّة اليونانيَّة الكلاسيكيَّة" في أجواء بدايات انتباه الشعوب لانتمائها القوميّ، فاستدرك البرلمان المذكور الـتَّـلـكُّـؤ عن حسم الأمر، وبَـرَّأ في جلسةٍ له عام 1816 أعمال إلجين، وصوَّت بأكثريَّـةٍ راجـحة لصالِح شراء مَـا تَـمَّ "نَـهـبـه" ليكون في عهدة "الأمَّة الـبريطانيَّـة". وبناء عليه، انتـقـلت المنحوتات إلى وصاية "British Museum" من أجل عرضها لعـامَّة النَّاس باسم "إلجين ماربلز"، وشُيِّد لَها صالون خاص في العام 1832.

لاحِـقًا، عند بروز أصوات مطالِبة بإعادة "القـمَر إلى مَـداره"، أقَـام أمنَاء المتحف البريطاني متراس التـذرُّع بـ"الملكيَّة القانونيَّة" للمنحوتات ردًّا عليها. وفي ثمانينيَّات القرن الماضي جعلت ميلينا ميركوري، التي عُـيّنت وزيرة للثقافة في اليونان (1981-1989)، من المسألة قضيَّة وطنيَّة/ حضاريَّة: "نحنُ نطالِب باستعادة جزء من صرح تذكاريّ فريد هو رمز مُمَيَّز وخاص للحضارة. لقد حان الوقت لهذا الرّخام إلى أن يعود إلى مكانه الصَّحيح تحت سماء أتيكا الـزَّرقاء...". سمع العالم دويّ صرخة ميركوري، وتصاعدت المطالبات في إطار أكثر اتّساعًا وشموليَّة بعد إثارة القضيَّة في إطار حقوق الأمم بكنوز إرثها التّاريخيّ/الحضاريّ عنوان إسهامها في الحضارة الإنسانيَّة.

*
كـتَـبَـت ماركولونغـو "إزاحـة الـقَـمَـر عَـن مَـداره" بإيحـاءات الليلة الَّتي أمضَتهَا وحيدة في متحف الأكروبوليس في أثـيـنا مع "الفـراغـات" الَّتي استشعرتها بِحضُور اليـونان القـديم الَّتي خبرَت روحَـه عبر اللغـة القـديمة الَّتي اكتـنَـهَـت أسرار دلالاتها برؤيَـةٍ تائقَـةٍ إلى الشَّغف الإنسانيّ الخالِص بِهِـبةِ الحياة عينها. كتابها شهادة لافِـتـة في قضيَّة باتت تحت مِجهر منظّمات وفعاليَّات تضع مسائل نهب كنوز الآثار والفنون من العصر الكولونيالي إلى زمننا الحاضر وبلايا الصراعات فيه في إطار حقوق الدول صاحبة الحقّ باقتنائها وإدراجها في السجلّ الحضاري/ الثـقافي المرتبط بالتراث الإنساني عمومًا.

ولا بدّ من القول بأنَّ هذه الشّهادة تأتي على هامش أعمالها الأساسيَّة التي أعطتها شهرتها العالميَّة التي استهلَّتها، كما سبقت الإشارة، بكتابها "اللغـة البديعة La langue géniale" الذي أنجزته قبل بلوغها الثلاثين، حيث جالت في آفاق "عبقريَّة" التعبير الاصطلاحي اليوناني القديم الذي يذخر في محمولاته الدلاليَّة الكامنة بمعنى الحياة الذي يتبدَّى هنا لا بالحنين إلى ماضٍ بل بِحثّ الرُّوح الإنسانيَّة إلى التطلُّع صوب المستقبل بشجاعة الأبطال. والبطولة التي تعنيها ماركولونغو ليست مرتبطة بإرادة الغلَبة والظَّفَر، بل بالكينونة الإنسانيَّة السابحة بقـوَّة الحياة الموهوبة عينها في خضمّ العواصف والأقدار نحو اكتشاف الذات بكلِّ إمكانٍ حيّ فيها سواء أكان ذلك من عوامل قوّتها أو كان، خصوصاً، من عوامل ضعفها بالمفهوم الذي استخلصته من جذور المصطلحات من ينابيعها الأولى. إنَّ أصل معنى "الأزمة" الحرجة (Crisis) باليونانية يخلو من السلبيَّة، فهو يتحدَّر من الجذر (Crineo) الذي يعني: الخِيار، وأفضل الخيارات الممكنة في عصرنا الحالي هو "أن لا نصل أبداً ونحن متخلّفـين عن ذات أنفسنا، أو عمّا نؤمن به حقاً".
     
                                                                             
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها