الإثنين 2024/02/19

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

التتار يستردون ابن فضلان من هوليوود

الإثنين 2024/02/19
التتار يستردون ابن فضلان من هوليوود
الفيلم رسالة إلى الأجيال الجديدة من التتار عن أسلافهم
increase حجم الخط decrease
يشهد الشريط السينمائي الطويل "ابن فضلان" إقبالًا كثيفًا من الجمهور في صالات جمهورية تتارستان وفي مدن الاتحاد الروسي حيث يكثر السكان المسلمون، ولا سيما في بشكورستان، ساراتوف، سمارا، أورينبورغ، إيجيفسك، تشيليابينسك، تيومين، يكاترينبورغ، نوفوسيبيرسك، وغيرها. ويدمج فيلم "ابن فضلان" بين الدراما التاريخية والوثائقي في حبكة تاريخية شعبية، وقصته مستوحاة من رسالة أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حمَّاد البغدادي الشهيرة "في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والروس والخزر والصقالبة والباشقرد وغيرهم"، في عصر المقتدر بالله العباسي (895-932).

الفيلم هو أول تجربة سينمائية في تتارستان، لإعادة تجسيد تاريخ اعتناق الإسلام من قبل شعب بلغار الفولغا وتوحُّد القبائل تحت رايته، في مواجهة حاكم الخزر اليهودي. تجري أحداثه عامي 921 و922، حيث يوفد المقتدر العباسي ابن فضلان ضمن "سفارة" ردًا على رسالة من حاكم بلغار الفولغا ألموش بن شلكي يلطوار (أو ألماز خان، جعفر بن عبد الله بعد اعتناقه الإسلام) يسأله فيها بناء مسجد وحصن يتحصّن فيه من الخزر. ويهدف الفيلم إلى استرداد ابن فضلان من نسخته الهوليوودية الأكثر انتشاراً عالمياً، عبر فيلم "المحارب الثالث عشر" (1999) للمخرج جورج مكتيرنان، الذي جمع أنطونيو بانديراس في دور أحمد بن فضلان، مع ديان فينورا، وفلاديمير كوليتش، وعمر الشريف.

يقدم الفيلم الذي أبصر النور في قازان، أي على أرض بلغار التاريخية، النسخة التتارية من شخصية ابن فضلان، السفير البغدادي إلى حاكم بلغار، مزيلًا عن هذه الشخصية ما لحق بها من تشويه وتزييف هوليووديَين، وفيها لم يصل ابن فضلان إلى بلغار بل التقى بقافلة من الفارنجيين (الفايكنع) واقتادوه إلى بلادهم. إلا أن فيلم مكتيرنان نفسه لم يستند إلى رسالة ابن فضلان، بل إلى حبكة ذكية نسجها الكاتب الأميركي مايكل كرايتون مما وصله عن الرحلة وملحمة بيولف الأنغلوساكسونية القديمة وصراعه مع الوحش غريندل (نحو عام 975)، فصبها في رواية "فصح الموتى" (1976).


لم يُكشف عن كلفة إنتاج فيلم "ابن فضلان"، لكن يظهر أنها كبيرة جدًا حيث يعيد المخرج آيناز محمدزيانوف، على مدى مئة دقيقة، تجسيد بغداد العباسية، ومعالم الحياة اليومية لدى القبائل المختلفة التي استوطنت ضفتي الفولغا، من الخيام إلى الأسواق والأزياء، فخِيط أكثر من مئة زي تاريخي، ونصبت عشرات الخيام، واستخدمت السيوف والرماح والدروع، وشارك في التصوير أكثر من 300 ممثل وممثلة، في منطقتي أتنينسكي وأستراخان. أما القسم الوثائقي من الفيلم فصوّر في قازان وبلغار وموسكو وسان بطرسبرغ وأوزبكستان، وهو يحتوي على مقابلات وتعليقات من العلماء والباحثين، وكان بين مستشاري الفيلم مدير متحف الإرميتاج ميخائيل بيوتروفسكي، ومدير معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية علي أكبر عليكبيروف، ومدير معهد الشيخ مرجاني للتاريخ راديك ساليخوف، والباحث الأول في المعهد فياتشيسلاف كوليشوف وآخرون.


أصل الحكاية

لم يصلنا عن أحمد بن فضلان سوى ما تحدث به عن نفسه في رسالته. لم يكن رئيس الوفد (السفارة)، بل أسندت إليه مهمة قراءة رسائل الخليفة أمام الحكام، وتسليم الهدايا، والتعاون مع الفقهاء والمعلمين. ولم يعرف من اللغات سوى العربية، لكن الوفد ضمّ بين أعضائه متحدثين بلغات الأقوام التي مرت بها الرحلة، ومنهم سوسن الروسي، وتكين التركي، وبارس الصقلابي (السلافي)، عبدالله بن بشتو الخزري، وغيرهم. ولم ينطلق الوفد في رحلته شمالًا عبر جبال القوقاز، أي عبر الطريق الأقصر، بل اختار الالتفاف عبر خراسان وبلاد ما وراء النهر وصولًا إلى بلغار، كي لا يمر بأراضي الخزر، الذين هم على عداء مع حاكم بلغار. ولا يوجد ما يدل على عودة ابن فضلان من تلك البلاد سوى ما ذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان".

كان ياقوت الحموي قد اقتبس في معجمه فصولًا من رسالة ابن فضلان، بعد ثلاثة قرون من تاريخ الرحلة، ويُفترض أنه اطلع على عدد من نسخ هذه الرسالة في نواحي مرو. وقد انشغل عدد من المستشرقين باقتباسات ياقوت، فجمعت في نص واحد وترجمت إلى عدد من اللغات الغربية. أما رسالة ابن فضلان بشكلها الحالي فلم يُعثر على نسخة منها حتى العام 1924، في محفوظات مكتبة العتبة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد الإيرانية. وكان ذلك على يد المؤرخ البشكيري زكي وليدي طوقان (أحمد زكي أحمد شاهوفيتش فاليدوف، 1890-1970) الذي كان ناشطًا سياسيًا، ورئيس الاتحاد القومي التركستاني، ففرّ من بطش البلاشفة من أوفا عاصمة بلاده بشكورستان إلى إيران. قبل أن يغادر مشهد إلى برلين، أرسل طوقان صورتي صفحتين من هذه الوثيقة إلى روسيا. ونص الوثيقة ينقطع عند وصف عاصمة الخزر، إتيل، مما يضع شكوكًا حول زيارة ابن فضلان تلك النواحي.

وفي العام 1937، تبرعت الحكومة الإيرانية بنسخة من الوثيقة إلى الأكاديمية السوفياتية للعلوم. حقق نسخة المخطوط وترجمه، المستشرق أندريه بتروفيتش كوفاليفسكي (1896-1965)، وراجع الترجمة وحررها العلامة إغناتي يوليانوفيتش كراتشكوفسكي (1883-1951)، ونشرت هذه الترجمة بالإضافة إلى صور المخطوط كله. وفي العام عينه، شكلت الوثيقة رسالة دكتوراه لطوقان، الذي نشرها في برلين. عربيًا، حقق الأديب السوري سامي إبراهيم الدهان (1912-1971) صور المخطوط الصادرة بعناية كراتشكوفسكي، وقد أمضى الدهان نحو ثماني سنوات في تحقيق المخطوط، بناء على طلب من رئيس مجمع اللغة العربية آنذاك محمد كرد علي، العام 1951، إلى أن صدر النص بشكله الذي نعرفه اليوم في دمشق العام 1959.


ابن فضلان التتارستاني


على الرغم من أن المعلومات كثير من المعلومات الواردة في الرسالة تتقاطع مع مدونات أخرى ويمكن الركون إلى صحتها، حول العادات والأعراف التي كانت سائدة لدى سكان حوض الفولغا والفارنجيين، لكن لا يمكننا أن نعرف إن كان ابن فضلان، أو الوفد كله، قد أنجز المهمة التي كلفه بها الخليفة وعاد إلى بغداد. ويشكك بعض الباحثين في وجود ابن فضلان، وفي هذه المهمة من أصلها. كما أن دراسة شخصية المقتدر نفسه، الذي لم يكن حاكماً فعلياً، ودراسة تلك الحقبة المليئة بالقلاقل والتي تعج بالمؤامرات من العصر العباسي، تضع شكوكًا في الجدوى من دعم حاكم قبلي شمالي بالمال وحمايته من الخزر. في المقابل، يبدو أن الإسلام كان قد وصل إلى تلك الأصقاع قبل زمن المقتدر، وأن خط تجارة الفراء والعبيد كان يمر بحوض الفولغا نحو بغداد.

وهناك أسئلة حول ابن فضلان نفسه، الذي لم يذكره أحد من المؤرخين أو علماء الأنساب، وشكك الباحثون في كونه عربيًا إذ يقول إنه "مولى محمد بن سلمان"، وفي مدى قربه من بلاط الخليفة، كما توقفوا عند اسم أبيه "فضلان" على وزن فعلان، ولم يحمل غيره هذا الاسم.

أما في تتارستان، في الأمر مختلف، فعبر الإنتاج الضخم لفيلم "ابن فضلان" رغبت السلطات السياسية والدينية في الجمهورية المتمتعة بالحكم الذاتي والمنضوية في الاتحاد الروسي، في إظهار ابن فضلان كما يرغب في رؤيته أهل البلاد، لا سيما أنهم يعتبرون يوم وصوله إلى بلادهم، أي الثاني عشر من أيار/ مايو، عيدًا رسميًا يُحتفل به سنويًا منذ العام 2010. إلا أن ابن فضلان ليس الهدف الأساس من الفيلم، على الرغم من أنه يحمل اسمه. فقد أجريت بحوث طويلة الأمد تتعلق بالعادات في الملبس والمأكل والمشرب، وطرق التخاطب، وبُنى الخيام التراثية وأثاثها، وحشدت طاقات علمية في حقول التاريخ والاثنوغرافيا والانثروبولوجيا أفادت من الدراسات التاريخية المتنوعة، واختير الممثلون بعناية كي تعكس ملامحهم التنوع القبلي لدى شعوب حوض الفولغا.

يشكل الفيلم الدرامي التاريخي الوثائقي عملًا علميًا ضخمًا يفتح الباب أمام تلمس كيفية وصول الإسلام إلى تلك البلاد واعتناق القبائل له وتوحدها، على الرغم من اختلافها القومي وتشاحنها السابقطويل الأمد... والأهم من ذلك أن الفيلم رسالة إلى الأجيال الجديدة من التتار عن أسلافهم الذين استوطنوا حوض الفولغا وبنوا حضارة لا تقل شأنًا عن الأمم المحيطة بهم. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها