الإثنين 2023/08/07

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

حرّاس لا يخشون نهاية العالم.. "بريكاريا" سوريون

الإثنين 2023/08/07
حرّاس لا يخشون نهاية العالم.. "بريكاريا" سوريون
البريكاريا الأوروبية (الصورة عن موقع investigate europe)
increase حجم الخط decrease
لا يكاد يَمرُّ أسبوع تقريباً من دون أن يخرج أحد النشطاء عبر وسائل إعلام ألمانية ليمارس طقوساً تشبه طرد الأرواح الشريرة. في المضمون يتكرر كلام هؤلاء عن هموم عالمية مثل "التغير المناخي، بدائل الوقود الضار بيئياً، تقليل استهلاك اللحوم". أما في الشكل، فهناك لغةٌ تلقينية وأنفاس متدافعة يَنقُص صاحبها أن يستخدم البخّور، أو يقرأ تعويذات، أو يضرب الناس بالسياط لفكّ السحر عنهم!

تحتدم النقاشات حول موضوعات "الاستدامة" والتفكير في مستقبل الكوكب، وحين يصل الجميع إلى تكاليف التحولات الاقتصادية المطلوبة سيتلعثم باحث أو يتلكأ خبير، لنسمع بالنتيجة لغة الـ"نحنُ" و"التضامن" وما إلى ذلك من كلمات يتحسس معها المتابع جيبهُ ونقوده استعداداً لما هو آت.

حكومات ومنظمات وشخصيات تحذر من "نهاية العالم"، وتتوسل الخلاص من خلال إجراءات قاسية. وفي ثنايا الوعظ الجمعي تختبىء الحقيقة: "ها قد تلاقينا وتبادلنا الابتسامات وذرفنا الدموع على أكتاف بعضنا البعض. في النهاية مَن سيحاسب على المشاريب؟".

بعض الناس في ألمانيا تعنيهم هذه الأسئلة لأنهم ذوو دخل محدود. وبعضهم لأنهم يواجهون واقعياً أصحاب الإجابات المفترضين. كحال لاجىء مثلاً يعمل كحارس أمن يَحمي آلة حفر مُعدّة لاستخراج الفحم من هجمات "نشطاء المناخ". 

نمور من ورق
قرب الحفارات وحولَ مستودعات النفط ينتشر حُرّاس أمن "سكيوريتي" ممّنْ توسع نطاق عملهم بمرور الزمن. مهامهم عموماً تبدو بسيطة، ورغم ذلك فقد بات لهم تخصص يمكن دراسته لتحصيل شهادة.

وبالنسبة لمجالات وأماكن عملهم، فهي تتعدد وتشمل محطات القطار والمطارات والمتاجر والحراسة الشخصية وإدارة المناسبات والاحتفالات. وعقب وقوع احتجاجات تطالب بـ"تجنيب كوكب الأرض كوارث قادمة" مؤخراً وما رافقها من قطع طرق أو مهاجمة منشآت، تزايَدَ الطلب على حرّاس سكيوريتي مؤقتين يساندون الشرطة بلا تدخل فعلي. ووَجدتْ شركات أمنية ضالتها الظرفيّة في لاجئين متعطشين لكسب المال. فأتيحت الفرص لهم لممارسة عمل لا يتطلب سوى لباس موحد، واعتياد على الوقوف لساعات، وتأدية دور فزاعة طيور، أو نَمِر من ورق. المهمّ أن يقف الحارس كحائط صدّ في مواجهة ناشط يُرهب خصومه بخطاب أخلاقوي وباحتمالات مُساءَلَة قانونية عقب أي اشتباك.

يَجدُ اللاجىء غالباً هذا الدور مقبولاً، ويرحّب بفرصةٍ لكسب يوروهات يُحِسّ معها بأنه يقترب من المناطق الدافئة في نظام طبقي أوروبي، أو بأنه يَمدُّ لأهله حبل نجاة ينتشلهم من الفقر في وطنه.

بريكاريا
فضلاً عن مجال السكيوريتي، يعمل كثير من المهاجرين في التنظيف، البناء، توصيل الطلبات، رعاية المسنين والمرضى. ويشترك جميع هؤلاء العمال في عدم الاستقرار المهني والتعرض للاستغلال، فأجورهم قليلة، وعقودهم مؤقتة، ولا ضمانات تحميهم.

ينطبق الأمر على لاجئين سوريين جدد، وآخرين قادمين من دول إفريقية أو آسيوية لا يمتلكون جوازات سفر أوروبية يحاولون تحصيل ما أمكن لزيادة دخولهم، وإرسال الحوالات لأهاليهم. ومع أن المهاجرين ليسوا وحدهم في هواجسهم المعيشية، فإنهم يمثلون جزءاً كبيراً مما يُعرف بـ"البريكاريا"؛ تلك الكتلة البشرية التي يتفق علماء اجتماع على اعتبارها "طبقة العمل غير المستقر"...

ومنذ أن نشر عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، مقالته العام 1998 والمعنونة "البريكاريا اليوم في كل مكان"، تطرقت دراسات عديدة إلى تأثير "الوظائف المؤقتة" وما تنتجهُ من واقع هش لدى شريحة واسعة من الناس، وصولاً لخلقْ أشكال مختلفة من الحرمان في الحياة اليومية، والعلاقة بالوقت، وبالعائلة.

ولعل من أهم النقاط التي أوردها بورديو تأكيده أن ضغوط اللا-استقرار الوظيفي تمتد آثارها لتجعل المستقبل بأكمله مُقلقاً من خلال "صعوبة التوقع، وغياب الحد الأدنى من الإيمان والأمل بالقادم".

من اليد إلى الفم
تُعتبر فترة منتصف الثمانينات في ألمانيا بداية للتحول في أنماط العمل. وتَمثلَ ذلك في قوننة الأعمال المؤقتة، وتشجيع العمل الحرّ، والضغط على العاطلين عن العمل، بحسب نيكول ماير أهوجا، أستاذة علم اجتماع العمل في جامعة "جورج أوغست" في غوتنغن. وتشير أهوجا في مقال لها إلى أن هذه المتغيرات جاءت في سياق "سياسة بريكاريّة" أي التوجُّه لإنشاء قطاعات ذات أجور منخفضة، أو ما يُعرف بوظائف "من اليد إلى الفم". واليوم تظهر تأثيرات ذلك على عدة مستويات منها "عدم قدرة الفرد على التخطيط لحياته".

وعليه، يمكن تخيّل واقع عامل مهاجر مثلاً وَصل حديثاً إلى ألمانيا في ظروف تردّي اقتصادي عالمي. وبانخراطه في أعمال مؤقتة بهدف تحسين وضعه وإعالة أهله، يستبدل هذا المهاجر المستقبل بمعانيه الفردية والجمعية بالحاضر(بعيداً من الطموحات الشخصية)، أو بشكل أدقّ بحاضِرَين اثنَين في بلدَيه الجديد والقديم.

يُرسل السوري طبعاً حوالات مالية، شأنه شأن باقي المغتربين. لكنّه يعايش حقائق ثقيلة، فبلده يَستعين بأمواله للثبات عند عَتَبة معينة في هاوية سحيقة. والأسوأ هو ذلك الانطباع بأنّ النظام والحكومات والفصائل والمليشيات والتجار في سوريا يضبطون إيقاع شغلهم على عُملة صعبة يرسلها.

نصف أو ثلث سوريي الداخل يعتمدون على الحوالات! أقلّ أو أكثر؟. لا يهمّ طالما أن اليد العاملة القادرة على توفير قطع أجنبي تقيم في الخارج، وهي تتعامل مع من مكثوا في البلاد وكأنهم رهائن وليسوا مواطنين، لدى جهات سلطوية متعددة تنتظر إتاوة أو فدية شهرية.

مسؤوليتنا ومسؤوليتهم
حين يَقَع الواصلون حديثاً إلى أوروبا تحت ضغط تلبية احتياجات مضاعفة ترسمها جغرافيا انتماءاهم، يَقبَلون بشروط مِهنيّة مُجحفة على صعيد العُقود والأجور والوقت والمخاطر (درجات حرارة منخفضة، إصابات عمَل، ملاحقة قانونية عند افتقاد ثبوتيات). عندها وبدلاً من الحديث عن "بريكاريا" عاديّة، نكون فعلياً أمام بريكاريا متعددة المآسي، أو كما يسميها الباحثون الألمان Multiple Prekarität.

أتكونُ هذه هي نفسها طبقة "صغار الكَسَبة" التي شدّد "حزب البعث" في أدبياته على دورها إلى جانب العمال والفلاحين؟ لكنّ أحداً لم يخبرنا أين يعمل صغار الكَسَبة السوريون، في بلدهم أم في الخارج؟ يتساءل حارس أمن"سكيوريتي" سوري في قرارته.

وفي الأثناء يواصل الوقوف بوجه ناشط يحاول تخريب حفّارة استخراج فحم. يَستَمِع الحارس إلى عبارات النشطاء عن "مسؤوليتنا لإنقاذ كوكب الأرض". لا يكترث طبعاً ولو اتهمُوه بـ"وَهن نفسيّة الطبيعة الأم"، لِقَناعَتِه بأنّ المناضلين لأجل الأوطان والبيئة وسواها إنما يتخذون القضية رهينة إذا ما رفضوا بحثَ التفاصيل. وبينما يحاذر خوض اشتباك أو عراك لحظيّ يكون فيه الحلقة الأضعف، تبقى هموم الحارس مرتبطة بارتفاع الأسعار في ألمانيا، وبتسعير بضائع بالدولار في سوريا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها