السبت 2018/04/07

آخر تحديث: 14:13 (بيروت)

بحثاً عن دانيال داي لويس..

السبت 2018/04/07
increase حجم الخط decrease
في الخامس من أيلول/سبتمبر 1989، وقف هاملت على خشبة المسرح الوطني في لندن، طويل القامة نحيلاً، له أنفٌ يليق بالبطولة، وجبين أنيق يتصبّب عرقاً. يضع يده اليمنى التي ترتجف خلف فخذه ليخبئها عن الجمهور، ويتهيّأ للمشهد المحوري في الفصل الأوّل من العرض، حين يظهر له شبح والده. يمسح بلسانه شفته السفلى دون أن يفتح فمه كي لا يتنبّه أحدا أنّه يحتسي بضعاً من الكلمات التي تطفو عليها، علّها تغذيه قوّةً. يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ليصل إلى وسط خشبة المسرح التي يلقّبها "علبة الضوء"، ينظر إلى يمينه نحو العتمة في الكواليس وينتظر أن تأتي إلى مخيلته صورة الشبح كي يبدأ بإلقاء نصّه. لكن الطيف الذي يظهر أمامه ليس شبح الملك المغدور في مسرحيّة شكسبير، بل طيف الشاعر سيسيل داي لويس، والد الممثل دانيال داي لويس. ليست المرة الآولى الذي يظهر الأب الشاعر أمام دانيال، فهذه هي الحال منذ أن بدأ بتأدية دور هاملت قبل أربع أشهر. والده المتوفي منذ العام 1972، يظهر كل ليلة عرض ضمن مشاهد الشبح، فيتحادث دانيال ووالده من خلال النص. هو كهاملت ووالده كالملك.

في كلّ ليلة، يتصارع دانيال كي لا يفقد ما تبقى من هاملت في داخله. يتمسّك بالنص كمن يحتضن حطام سفينة للنجاة، وفي كلّ ليلة ينجو من الغرق. لكنّ هذه المرّة كان الطيف أقوى منه وأقوى من نصّ شكسبير، يسقط دانيال داي لويس أرضا وينحب على ذكرى والده. الكل ينظر إليه وهو لا يرى سوى الخشبة التي أصبح لمعانها حاداً. ينزل دانيال من الخشبة قابضاً على وجهه الممتلى بالدموع والعرق، ويعلن أنّه ليس باستطاعته الاكمال. يآخذ ممثل آخر مكانه لاستكمال العرض، لتصبح تلك الليلة الآخيرة التي يقف فيها داي لويس على خشبة المسرح. تضجّ لندن بالخبر وتتهاوى الإتهامات على داي لويس. منهم من يتّهمه بالتكبّر على المسرح من أجل السينما، ومنهم من يختلق قصصاً عن جنونه.



يرحل داي لويس من إنكلترا ويستقر في إيرلندا، بعيداً من ضوضاء الصحف. هناك يعود إلى انشغالاته الحميمة كالعمل في الخشب وينتظر ما قد تمنُّ عليه مسيرته متى عرض "قدمي اليسرى"‪،‬ الفيلم الذي كدح في العمل عليه بدور فنّان مشلول من كلّ جسده سوى قدمه اليسرى.

بعد عام، دخل داي لويس إلى بهو مستشفى سانديماونت لعلاج المعوقين في دبلن وبيده تمثال "أوسكار أفضل ممثِّل" للدور الذي اتقنه في "قدمي اليسرى" حين أمضى شهورا في المستشفى لدراسة الأطفال المقعدين. تنظر إليه الموظفّة في المستشفى، هيلين، محاطًا بالأطفال السعداء، لا زالت ترى أنّه من اللا-أخلاقي أن يقوم ممثِّل بكامل قدرته الجسديّة مثل داي لويس، بتمثيل دور شخصية مقعدة، لكنّ شيئاً من بهجة الأطفال في تلك اللحظة والصداقة التي ربطتها به حين لازم المستشفى للتحضير للدور، كانا كافيين لتبديد شكوكها. يخرج دانيال من المستشفى مدركاً أنّه كان على حق في هجر المسرح الإنكليزي، وأنّ حياته ستكون دراسة طويلة في سبل الغياب داخل شخصيّات فيلميّة.

تتوالى الأدوار البطوليّة وتتكثّف تجارب دانيال داي لويس في الغياب، فيتعلّم كل تفاصيل حياة الشخصيات التي يلعبها ويتقنها حتى الإحتراف. من طرق الصيد البدائيّة إلى بناء المنازل والسفن، رمي السكاكين والملاكمة، تشغيل آلات تنقيب النفط واللغات المحكيّة من اللكنات الإنكليزيّة والأميركيّة حتّى التشيكيّة. يضع نفسه في ظروف مشابهة للشخصيات، من النوم في زنزانة إلى الطلب من الشرطة التحقيق معه بعنف ومن العاملين على الفيلم بإذلاله ورمي المياه الباردة عليه. أكثر ما يشغله تفاصيل دقيقة حول عتاد وثياب الشخصيّة كالسكين، القبعة والمعطف، دائماً المعطف.



الغياب الذي ينشده داي لويس ليس إنغماساً لنفسه بالكامل داخل الشخصيّة الممثلة حتى يفقد نفسه، بل تجوالاً في المنطقة الحديّة بينه وبينها. حين يدخل إلى عالم الشخصيّة يدخل بجسدٍ مشغولٍ بها، بما تقوم به وما تعتاش له وعليه لكي يهيم بجسده التعب داخلها، حينها ينتهي الصراع بينهما ويتلاحم الإثنان في غيابهما. يبدأ التحضير قبل فترة طويلة من التصوير لكي يكون داخل تلك المنطقة الحدية حين يبدأ العمل أمام الكاميرا. حرفته الحقيقية هي الانشغال بالزمن والانتظار، أمور تعلمها من الحرف اليدويّة التي شغلته طول حياته: النجارة، صنع الأحذية وصيد السمك. في كلِّ مرّة يلبس فيها شخصية تصبح واقعاً متكاملاً. ولمدّة أشهر لا يمكن التواصل مع داي لويس، بل فقط مع الشخصيّة المجسدة. في ذلك دعوة من داي لويس لكل فريق عمل الفيلم للرحيل إلى واقع آخر يحمله هو بجسده. ربما لذلك كان دائماً حريصاً على إيجاد معطفٍ للشخصيّة، لكي يضعه على كتفيه ويحمي به هذا الواقع. وربما لذلك لا يستطيع سوى أن يكون شخصية رئيسيّة في الأفلام. فكيف له أن يحمل واقع الفيلم داخله إن لم يكن هو محور الفيلم؟

حين ينتهي داي لويس من تصوير فيلم، يلزمه وقت طويل للخروج من هالة لقائه مع شخصية متخيلة. يخرج منها متعباً كمن يخرج من البحر ناجياً. ربما لذلك أعلن اعتزاله التمثيل بعدما أصبح في الستين، لكي يحمل كل ما لديه من حرفٍ وانتظار ويصنع بها كل السفن والأحذية قبل الغياب الأخير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها