السبت 2018/04/21

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

"عرس الدم" في حمانا: لوركا في مشهدية سياحية

السبت 2018/04/21
"عرس الدم" في حمانا: لوركا في مشهدية سياحية
أي نوع من العلاقة بناها هذا العرض مع سكان سوق حمانا؟
increase حجم الخط decrease
تنظم مبادرة المسرح في الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع بيت الفنان في حمانا سلسلة عروض من إنتاج روبرت مايرز وإخراج سحر عساف لمسرحية "عرس الدم"، النص المسرحي الشهير للشاعر الإسباني فيدريكو غارثيا لوركا.

هي خطوة ذكية ارتأتها المخرجة في الإشتغال على نص مسرحي للوركا وتحويله الى عرض خاص بموقع ومتنقل (Site Specific Performance) في بلدة حمانا. وليست تلك تجربتها الأولى إن كان من ناحية إخراج عروض خاصة بموقع أو من ناحية العمل -وإن كممثلة - على نصوص ابن غرناطة. فقد قامت بإخراج عرض خاص بموقع في منطقة الخندق الغميق بعنوان "إنتا وراجع لورا...انتبه" (2014) وتميزت بدور الخادمة العجوز في "بيت برناردا آلبا" الذي تولت إخراجه لينا أبيض (2009).

بعد ما يقارب التسع سنوات، تطرق سحر عساف باب ثلاثية لوركا الريفية بصفتها مخرجة ومترجمة لنصٍ يُعتبر إرثاً ثميناً في تاريخ المسرح العالمي، تميز بشاعريته وغنائيته ورمزيته في آن: هي حكاية قدر متكرّر لا يمكن الهروب منه، صراع عائلات لا يخلو من إيحاء طبقي إقطاعي، رغبة جامحة قاتلة تتحدى الأعراف والمسلمات الإجتماعية، ونص يسائل بموزاة كل هذه التيمات مسألة العنف والأخذ بالثأر. استلهم لوركا حكايته من وقائع حقيقية تمت عام ١٩٢٨ حيث اقتُتِل رجلان لأجل فتاة: الأول هو العشيق السابق ليوناردو والثاني هو الزوج الذي لم يمضِ ساعات على زفافه قبل أن يكتشف أن زوجته قد هربت مع عشيقها السابق بعد صراع دأب لوركا على تبيانه: منذ اللحظة الأولى لظهور ليوناردو و"العروس"، هنالك رغبة مقموعة مجبولة بحنق تأكل كلاً منهما.



في مشهد زيارة العريس ووالدته لمنزل أهلها، تدخل العروس، "رأسها منكّس" مستقبلةً ضيوفها بتوتر فيه قليلٌ من الخجل، تخاطب حماتها كفتاة مطيعة، إجاباتها مقتضبة، كما لو أنها تقوم بفعل واجب. الجملة الأولى التي تقولها لحماتها هي: "أنا سعيدة، قلت نعم لأنني أريد أن أقولها". الجملة الثالثة التي تقولها "سأعرف كيف أحافظ على كلمتي". عندما قال لها عريسها "حين أبتعد عنك أشعر بفراغ كبير" أجابت: "حين تصبح زوجي لن تعود تحس بذلك". في النص الأصلي للوركا الذي ترجمه سمير عزت نصار والذي نُشر في سلسلة المسرح العالمي، تبدو العروس في هذا المشهد أنها تخاطب ضيوفها في الظاهر وتؤكد لنفسها ما تشك به في الباطن. لدى خروج الضيوف، تتحرق الخادمة لرؤية الهدايا في حين ترفض العروس بحدّة حتى رمت كيس الهدايا من يدها. عندما تلمّح لها الخادمة أنه يبدو أنها لا ترغب الزواج، تكتفي بالصراخ. وليوناردو، الذي يبدو غير سعيد بزواجه، يستشيط غضباً حين يسمع، من إحدى الجارات، خبر وتفاصيل الهدايا التي اشترتها أم العريس. هكذا بدأ لوركا نسج احتراق رجل وفتاة برغبة مُنِعا عنها: هو احتراق تشوبه الكثير من الرغبات المتناقضة إثر الظروف ومنظومة القيم التي فرضها المجتمع على كل منهما. في المشهد الذي يلي، نكتشف أن العروس ستتزوج دفاعاً عن كبريائها: "يعرف رجل مع حصان أشياء كثيرة ويستطيع أن يفعل كثيراً  ليرهق فتاة معزولة في الصحراء. لكن لي كبريائي. لذلك السبب سأتزوج. سأغلق بيتي على نفسي وعلى زوجي ومن ثم سأحبه أكثر من أي شخص آخر". تحمل تلك الجملة تأويلات متعددة اذ فيها رغبة بالإنتقام يصحبها إنكسار ما وأشبه بترمّل عن رغبتها الحقيقية. 

لن أطيل أكثر في تقديم تفاصيل عن عرس الدم خاصةً وأن المخرجة سحر عساف قد بقيت وفية في ترجمتها المتقنة للمضمون الحرفي لمعظم الحوارات (وإن حذفت بعض المقاطع)، لكن المشكلة الأساسية كانت في الأداء. من الطبيعي أحياناً أن لا يكون أداء جميع الممثلين على السوية نفسها أو المستوى نفسه من الإبداع والتألق، لكن حين تتسم معظم الأدوار الأساسية بضعف في الأداء أو بالإدعاء وبفائض من الإنفعال يقابله أداء متميز للأدوار الثانوية فهنالك مشكلة جوهرية: أن يتم اختصار الرغبات المتناقضة التي تتآكل كل من ليوناردو (جواد رزق الله) والعروس (ماريا بشارة) في انفعالٍ واحد على النمط ذاته من الغضب في أغلب لحظات العرض، من دون أن يبرز تطوّر الرغبة التي تنقلب الى احتراق الذات.. وأن يُكتفى بأداء لفظي للجمل التي ترجمتها عساف من دون أن يصار الى الإشتغال على الفعل الدرامي المحسوس الذي يبرز أكثر فأكثر الدوافع الداخلية لتلك الشخصيتين، فهذه كلها عناصر تضعف الجهد الإنتاجي المبذول.



من ناحية أخرى وقع العريس (وليد صليبا) أسير وجهه المبتسم وأدائه المونوتوني طوال الوقت. يبدو أن الممثلين الرئيسيين ما زالوا في مرحلة استيعاب النص ولم يمتلكوه تماماً -  هذا ما ظهر، أقلّه في العرض الأول. كما أن هنالك إغفال للأثر الذي يفرضه فضاء العرض على الأداء التمثيلي: اذ تفرض الفضاءات الحميمة – كغرف البيوت وباحاتها الصغيرة ومداخل الكنائس، الكثير من العمل على التفاصيل الأدائية الصغيرة والقليل من الإفتعالات التي في غير مكانها خاصةً حين يكون العمل المسرحي مطروح للجمهور بشكل كلاسيكي.

على صعيد آخر، قدّم هذا العرض ثلاثة اكتشافات لمواهب يبدو أنها كانت مختبئة أو تعمل في الظل. كلير مشرف، قدّمت تصميماً مميزاً ومبتكراً للملابس لا سيما ملابس المتسولتين اللتين تألقتا بدورهما. وهنا يأتي حضور ريتا باروتا، المتسولة التي امتلكت دورها بإتقان. ولعل أجمل اكتشاف كان الممثلة الشابة بسمة بيضون، زوجة ليوناردو، التي تميزت بصدقٍ وعفوية نادرَين، وإن كان دورها مقتضباً. كما تميزت مواهب أخرى، مثل باسل ماضي، دارين شمس الدين، كريستين يواكيم، وريتا ابراهيم. من ناحية أخرى كان حضور مي أوغدن سميث التي لعبت دور والدة العريس جيداً، وإن كان تلعثمها متعباً للمشاهد في أحيان كثيرة.



ولفضاءات حمانا وقعٌ جميل وآخاذ على عمل لوركا الغني بعناصر الطبيعة وبالإحتفاء بالشعر وأغاني الفولكلور الشعبي الأندلسي. كان الجمهور يتنقّل مصحوباً بمتسولتين من باحة صغيرة الى غرفة جلوس قديمة فساحة تطل على شرفة بيت قديم من أوائل القرن العشرين الى صالة أفراح فسينما روكسي وصولاً الى الكنيسة وعودةً الى بيت الفنان في حمانا. وكان يصعد أدراجاً وينزل أدراجاً أخرى ويتنقل من ناصية رصيف إلى أخرى ويمشي بين المحلات ومتاجر أحياء حمانا. مدهشٌ هذا التنقل والدخول الى منازل مأهولة بسكانها واستخدامها ولو لساعات في عرض مسرحي. جميلةٌ هي كل تلك التفاصيل الصغيرة من بلاط الأرض القديم، الى المرآة الخشبية المعلّقة على الحائط، الى مدخل مطبخ صغير ومتواضع، إلى فنجان القهوة الذي يُصّب للتو ولكن ماذا أضافت بلدة حمانا على عرض عرس الدم؟ 



تفترض عبارة "عرض خاص بموقع" التي استخدمت في مطوية المسرحية أن العرض سيستلهم من المكان وإرثه ليكوّن مشهدية تنبثق وتنطلق من عناصره لتضيف ألقاً إضافياً لـ"عرس الدم". وهنا لا أعني تقديم العرض بلبننة "حمانية" تحوّل اسم ليوناردو، أو بتقديم نص العرض بلهجة جبلية أو ما شابه، إنما أعني هامشاً من التفاعل أكثر حضوراً مع المكان وأهله. ليست الأمكنة ديكورات جميلة فحسب. للأمكنة روح ورائحة وماض وتراث شفهي وأطعمة، من الممكن البحث فيها لتتمظهر مسرحية "عرس الدم" في قالب فريد. بلدة كبلدة حمانا لها طقوسها في الحزن والإحتفال والأفراح. كان من الممكن القيام بتطعيم عضوي وطفيف للعرض ببعض من هذه العناصر، يخلط بين العصري والفولكلوري والكلاسيكي والإسباني واللبناني، بدلاً من إسقاط نص لوركا على المكان الذي حضر كصورة سياحية جميلة لا أكثر. وبدت المشاهد المسقطة، مع صورة سياحية مماثلة وغير موظَّفة للمكان في بعض الأحيان، أكثر اصطناعاً مما عليه، تحديداً المشاهد الإحتفالية التي بدت فقيرة ومفتعلة. ثمّ أي نوع من العلاقة بناها هذا العرض مع سكان سوق حمانا الذي مررنا بقربه؟ سؤال آخر يُطرَح. تلك السيدة، صاحبة متجر الخضر التي مرّت المتسولة من قربها، وتبعناها نحن الجمهور، باتت جزءاً من مشهدية "عرس الدم"، من دون استئذانها. هل كان هناك مجال لتفاعل بسيط معها ينبئها بالمأساة القادمة، كما أنبأت المتسولة جمهورها؟ أم أن "عرس الدم" بنى حائطاً رابعاً مع سكان السوق؟

لا يمكن إلا تقدير هذا الجهد في تنفيذ عرض يجمع نحو 30 ممثلاً ومغنياً، ويمتد على أحياءٍ بأكملها في بلدة حمانا. لكن كان ينقصه القليل من الجرأة والمغامرة في الدراماتورجيا (روبرت مايرز)، وفي الرؤية الإخراجية، ومزيداً من البحث في أثَرَ المكان وإتقان الأداء. يقول لوركا إن "المسرح الذي لا يلتقط، بالضحك والدموع، النبض الإجتماعي والتاريخي ودراما ناسه، والذي لا يلتقط الألوان الأًصيلة لروح وطبيعة الفضاءات والمناظر الطبيعية، لا يملك حق أن يسمّى بالمسرح؛ انما يتحوّل إلى مكان للتسلية"...
فطالما أن لوركا نفسه قال هذا، وطالما قصدنا حمانا لحضور "عرس الدم"، لماذا لا نغامر قليلاً؟    
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها